نشر في
فطر الله الخلق بقدرتهم على الملاحظة، ثم شاء سبحانه أن يتفاوتوا في ذلك، فقلّما نجد اليوم من يعصف بفكره بغية إدراك منطق يفسّر ما شهده، ليحظى بنشوة فك وثاق ما تعقّد والتبس، لاسيما في ظل أجواء محبطة على مستوى السياسة المحلية، إلا أن تفسير المنطق وراء أحداثها يمثّل طوق النجاة، الذي يأخذنا إلى بر التفاؤل، تفاؤل محدود، بحدٍّ أدنى من المتواضع، ففي مرحلة انتقالية على المستوى الاقتصادي أو السياسي يُعد من السذاجة الإفراط بنظرة تفاؤلية من دون الاستناد على رؤية واعدة، قائمة على أهداف حقيقية، يتم تحقيقها وفق إستراتيجيات فاعلة، إذ إن «بعض الكَلام كِلام». ولعل إدراكنا بذلك أسهم في خفض الإحباط إلى حد كبير، في وقت تبينت لنا فيه بوادر الدخول في طريق إعادة هيبة المنطق ليكون منطقا.
في يناير 2022 تشرفنا بقبول دعوة لقاء من «ثمانية»، وجّه لنا الإعلامي المتميز عبدالرحمن أبو مالح تساؤلاً حينها، حول إمكانية تحقيق رؤية اقتصادية كويتية، وأشار - بناء على أجوبتنا للمحاور - إلى أن الرؤية الاقتصادية - أيا كان مصدرها - لا يمكن أن تتحقق. وأجبناه بالنفي، فالرؤية الواعدة قد تكون قابلة للتحقيق، مشيراً إلى «توسمنا الخير بالقيادة السياسية للدخول بعمق في هذا الملف». ولعل خلفية ذلك المعتقد جاءت من انعدام منطقية الواقع السياسي والاقتصادي آنذاك، فالإصلاح الاقتصادي بحاجة أولاً إلى إعادة هيبة «المنطق» بحالته الطبيعية، وهذا ما لا يمكن لنتاج بيئة سياسية لا منطقية تحقيقه.
وقد ندرك الآن أن ذلك اليوم، الذي ألقى فيه سمو ولي العهد آنذاك خطاباً نيابةً عن سمو الأمير في يونيو 2022، كان يمثل يوم بدء طريق «إعادة هيبة المنطق»، وقد ندرك أيضاً أن الطريق مازال في بداياته ولم ينتهِ بعد. فبعد زمن تشكَّلت فيه أغلب القرارات على ردود أفعال لا أفعال، فإننا نجد أن هذا المشوار يشهد ظاهرة الأفعال، بالإضافة لردود أفعال لأفعال، إن لم تكن أكثر منطقية عما كانت عليه، فهي حتماً أقل لامنطقية عن السابق. وما يشير إليه ذلك المنطق منذ ابتداء المشوار، أنه في كل مرحلة نمر بها يتم وضع بنى تحتية للمرحلة التي تليها. وما ندركه أيضاً في ذلك المنطق أنه يرجّح كفة المصلحة العامة على الخاصة بشكل «ثوري»، يصعب الانتفاع به لمصلحة الأجزاء على حساب الكل.
بغض الطرف عن تفاصيل المراحل منذ ابتداء المشوار، وعن تفاصيل حسناتها وأخطائها الجزئية، ومع استذكار حالة جمود مؤسسات الدولة وتعاملاتها في شتى القطاعات، فإننا نستدل بحضور صمت الخبراء، والذي يُعد أبلغ من الكلام «فالحرُ من راعى وداد لحظه»، وهو خير دليل على اعتدادهم بجدوى ذلك المنطق على المستوى الكلي، وترقبهم لأحداث استثنائية على مستوى تطلعاتهم في مجالات الاختصاص. أيضاً، نشهد قدرة ذلك المنطق - نسبياً - في تثبيط إيمان الرأي العام بمن يعلو صوته بكلمة حق يراد بها باطل. كما يُعد الظهور الإعلامي لمنتفعي المراحل السابقة في توجيه نقد مباشر خير دليل على أن ذلك المنطق قد بلغ مراحلاً جديدة في تمكين نفسه.
وما نعاصره اليوم هو نشوء ذلك المنطق في مراحله الأولى، وشيئاً فشيئاً تدريجياً سيكون قادراً على تغيير آلية قراءة الرأي العام لنائب مجلس الأمة، لنائب لا يخجل من الوقوف أمام قانون أو خطاب «شعبوي» بغية تعزيز رصيدٍ انتخابي، إنما يفخر بصونه للمصلحة العامة. وما تكرر من ردود أفعال تجاه المواقف الخجولة - كالحزم السياسي - خير دليل على أن تمكين ذلك المنطق بات جلياً للعيان، وكأن لسان ضميرنا يصدح: «لا تظلم القوس، اعط القوس باريها».
تبدلت قواعد اللعبة يا سادة، فما عاد للبيدق قيمة، وما كان مجدياً من أدوات في السابق لن يحقق اليوم غاية. وعلى الرغم من بعض الكبوات في المقاصد الجزئية، فإن المقصد الكلي يسير وفق إستراتيجية قائمة على منطق أقرب في تمكين جدواها، وهي أسمى من أن تتأثر بمحض كبوات، فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً.