مقاربةٌ ترى في انكماش الإنفاق الاستهلاكي صمتًا إصلاحيًّا لا أزمة، إذ يُعاد بناء الثقة والاتزان بين الدولة والسوق والعقل الجمعي.
ما الأرقام إلّا ظلالٌ تسير في إثر الحقيقة، تُبدي الأثر وتُخفي السبب، وتُحصي الحركة في ظاهرها ولا تنفذ إلى دافعها. فالأرقام، وإن بدت يقينًا، إنما هي شهادة لحظةٍ من زمنٍ متحوّل، لا تصف الدوافع التي حرّكتها ولا المآلات التي ستؤول إليها. وإذا كانت الحقيقة تمضي أمام الأرقام، فإنّ ما صدر في الآونة الأخيرة عن انكماش الإنفاق الاستهلاكي في البلاد، لا يُقرأ رقمًا فحسب، بل شاهدًا على تحوّلٍ في البنية الاقتصاديّة والاجتماعية، حيث تبدّلت هيئة السوق، وخفَّ ضجيج المعاملة، وسكنت يد السحب، وهدأت شهوة الشراء بعد سنين من البذل المندفع.
وتعدّدت الاجتهادات في تفسير علّة هذا الانكماش؛ فمنها ما بدا راشدًا في منطقه، ومنها ما جانبه التوفيق في تأويله، غير أنّ معظمها انصرف إلى ميدان الاقتصاد الجزئي، مكتفيًا برصد حركة السوق في ظاهرها، دون النفاذ إلى ما تحتها من بنيةٍ أعمق، تُوجّه المسار وتحدّد المآلات. فبعضها رأى في الأثر خاتمة القصة، وبعضها الآخر رأى في الباعث أصلها، غير أنّ الحقيقة أبعد من ذلك؛ فهي كامنة في العلاقة بينهما، لا في أحدهما منفردًا.
ولكي يتّضح موضع العلّة من أصلها، لا بدّ للناظر أن يتأمّل الظاهرة في بُعديها: قراءةٌ فنيّة، تكتفي بالأثر وتُغفل المقصد، وأخرى سياديّة، تُدرك المقصد وتستدل بالأثر.
القراءة الفنيّة.. بين ملاحظة الأثر وإغفال المقصد
ولو أُغفل، جدلًا، التوجّه السيادي العام، وتُرك الإيمان بأنّ صانع القرار يعي كلفة قراراته ويدبّر آثارها قبل أن تقع، فإنّ القراءة حينئذٍ لا يسعها إلّا أن تُبنى على ظاهر الأثر دون باطن المقصد؛ وما يجيء لزامًا أن يُقال حينها: إنّ ما نراه من انخفاضٍ في الاستهلاك ليس مرضًا طارئًا في الجسد الاقتصادي، بل عرضٌ مركّب تتداخل فيه طبائع الفنّ والإدارة والسياسة والاجتماع، كما تتداخل علل الجسد والنفس في كيان الإنسان.
فمن جهةٍ فنيّةٍ بحتة، تبدو الظاهرة أقرب إلى تصحيحٍ دوريٍّ منها إلى ركودٍ مقلق. فالأسعار هدأت بعد موجاتٍ تضخّمية متلاحقة، واستقرت تكاليف المعيشة عند مستوياتٍ أكثر اتزانًا، فانخفض الإنفاق الاسمي وإن لم يتراجع الإنفاق الحقيقي في أصله. كما أنّ المقارنة الزمنية جاءت بعد أعوامٍ من الإنفاق الاستثنائي الذي أعقب الجائحة، حين فاضت السيولة في أيدي الأفراد وتزاحم الطلب على المستورد، حتى تجاوز الإنفاق قدر الحاجة؛ فكان التراجع اللاحق عودةً إلى السوية لا انحدارًا إلى العجز، وتصحيحًا لمسارٍ تضخّم في غير موضعه. ثم إنّ التحوّل التقني في أساليب الشراء، من الاستهلاك العاطفي إلى الانتقاء العاقل، جعل الرقم النقدي أهدأ، والقرار الشرائي أعمق، فظهر الانكماش في الحساب بينما الوعي الاستهلاكي في صعود.
ومن جهةٍ إداريّة، فإنّ الإدارة الاقتصاديّة حين تتبدّل إشاراتها على نحوٍ مفاجئ، ولا تُسبق قراراتها ببيانٍ يشرح المقاصد ويحدّد المراحل، تُربك السوق أكثر مما تُنظّمها. فالإدارة ليست إصدار الأوامر، بل فنّ بثّ الطمأنينة في نَفَس السوق. فإذا صدرت التوجيهات متتابعة متباينة، أو نُقلت للناس عبر الشائعات قبل إعلانها رسميًّا، اختلطت الثقة بالحذر، وغلب الترقّب على التفاعل، فاستحال الانتظار سياسةً غير معلنة. والإفصاح، وإن بدا شكليًّا، هو عصب الاستقرار، إذ به يتحدّد معنى «اليقين الإداري» الذي تُبنى عليه قرارات الأفراد والمؤسسات.
ومن جهةٍ سياسيّة، فإنّ الاقتصاد لا يزدهر ما لم تتكافأ كفّتا السلطة والقرار؛ فحين تختلف الأولويات بين الجهات، أو تتأخر التشريعات المنظمة للسوق، يضيع الإيقاع وتفتر الهمم. والمستثمر، صغيرًا كان أم كبيرًا، لا يغامر في بيئةٍ لا يعرف أثمانها غدًا ولا رسومها بعد غد، ولا يعلم أَماضيةٌ هي في فتح الأبواب أم في سدّها. والسياسة الماليّة حين تُبدّل خطابها على عجل، تُربّي في الناس عادة الانتظار، فيغدو التريّث حذرًا مشروعًا لا سلبية؛ وتلك العادة، وإن بدت وقارًا، تحول دون النمو، لأنّ العمران لا يقوم على الاحتراز وحده، بل على الثقة التي تجعل الخطوة ممكنة قبل أن يُرسَم الطريق.
ومن جهةٍ اجتماعيّة، فإنّ مجتمعًا تربّى عقودًا على وفرة الإنفاق العام، ثم يسمع حديثًا عن مراجعةٍ للدعم، أو إعادة تسعيرٍ للخدمات، أو تقليصٍ للمزايا، لا بدّ أن يتّجه سلوكه نحو التريّث؛ فالأمان الاقتصادي عنده ليس في رقم الحساب، بل في استقرار القاعدة التي يقوم عليها رزقه. وحين تهتزّ هذه القاعدة في الوعي الجمعي، ولو نظريًّا، يختار الناس الادخار بدل التوسّع، وينكمش الطلب لا بفعل العوز، بل بفعل الحرص على الاتزان. وهنا يتبدّى البعد النفسي للسوق، إذ تتحوّل المخاوف إلى سياسةٍ غير مكتوبة، ويغدو الاطمئنان مطلبًا لا يُنال بالمال، بل بالثقة.
فإن أُغفل التوجّه السيادي العام، وجاء الاعتقاد بأنّ مجلس الوزراء ما زال في مقام الترقّب، ينتظر قراءةً فنيّة حصيفة لما آلت إليه الأمور، لكانت هذه الأبعاد، باجتماعها، الأجدر بصناعة مناخٍ يتربّص فيه المال بنفسه، ويتردّد فيه المستثمر في مدّ يده، ويأنس فيه المواطن بالادخار أكثر مما يأنس بالشراء، فتغدو الحركة الاقتصاديّة كمن يقف على أطراف الماء؛ يمدّ قدمًا ويقبض أخرى، يخشى الغور كما يخشى الجفاف.
غير أنّ هذه القراءة، على اتساعها، لا تكتمل ما لم يُدرَك وجه الدولة في تدبير هذا المشهد، وما لم تُستحضر الإرادة السياديّة، بوصفها – إن صحّ الظن – الفاعل الأوّل وراء الأثر.
القراءة السياديّة.. بين إدراك المقصد والاستدلال بالأثر
فماذا لو وُضع التوجّه السيادي العام في عين الاعتبار؟ أيبقى المشهد على ما يبدو عليه من انكماشٍ وهدوء، أم يُكشَف له عن معنى آخر في سياقٍ أوسع وأبعد مدى؟ فحين تُستحضر الإرادة العليا في هندسة التحوّل الاقتصادي، تُقرأ الأرقام في ضوء المقاصد لا الوقائع وحدها، ويُفهَم الخفوت في الإنفاق بوصفه مرحلةً انتقالية نحو انتظامٍ أشمل في البناء المالي والإنتاجي. عندئذٍ يصبح التباطؤ ترتيبًا للمشهد قبل اتساعه، ويغدو التريّث في الصرف جزءًا من انضباطٍ مقصودٍ يُمهّد لإصلاحٍ أعمق من ظاهر السوق. فالرؤية السياديّة إذا حضرت، أعادت تعريف الحركة الاقتصاديّة، لا بوصفها صخب بيعٍ وشراء، بل تهيئة لصياغة جديدة لمنطق النمو وأدواته.
ولئن كانت معادلة الناتج المحلي ظاهرة الأركان – استهلاكٌ واستثمارٌ وإنفاقٌ حكوميٌّ وناتج صادرات – فإنّ النظر فيها في اقتصادٍ ريعيٍّ كاقتصادنا لا يجوز أن يُجرّد من وعي تركيبها، إذ ليست الأجزاء فيه متكافئة في الوزن ولا في الأثر. فالقسم الحكومي يمدّ البقية بدمائه، والإيراد النفطي يهب السوق أنفاسها، فيغدو الاستهلاك تابعًا للريع لا للإنتاج، وتصبح الحركة الاقتصاديّة في ظاهرها حيويّة، وفي جوفها اعتمادًا. فإذا أرادت الدولة الخروج من مدار الاستهلاك إلى فلك الإنتاج، وإعادة بناء الهيكل على قاعدةٍ أصلب من التوزيع، فإنّ انخفاض الإنفاق الخاص لا يكون نذيرَ انكماشٍ بل نُذرَ ميلادٍ جديد، شرط أن يُدار بعقلٍ إصلاحيٍّ واعٍ يدرك الغاية ويقدّر الكلفة.
فليس كل انكماشٍ نذيرَ عجز، ولا كل ارتفاعٍ علامةَ رخاء؛ إذ قد يكون الانخفاض تنقيةً من شوائب الريع، وتحوّل السلوك الاقتصادي مقدّمةً لإصلاحٍ أوسع يُعيد تعريف الرخاء بما يُنتج لا بما يُنفَق. فالمرحلة الإصلاحيّة بطبيعتها مرحلة مراجعةٍ وصبر، لا مرحلة اندفاعٍ ووَفرة؛ هي امتحانٌ لثبات الإرادة قبل أن تكون اختبارًا للنتائج.
غير أنّ لهذا التحوّل كلفةً لا تُخفى؛ فالإصلاحات حين تخرج من حيّز القول إلى ميدان الفعل، تترك أثرها على بنية الإنفاق، لأنّ السياسة حين تُعيد صياغة أدواتها، تُعيد معها حركة المال وسياقه. فمن الطبيعي أن يتراجع الإنفاق العام حين تُسنّ التشريعات التي تُحكم الرقابة على المال العام، وتضيّق مسالك الجريمة الاقتصادية وغسل الأموال، وتحاصر الاتجار بالمخدرات والمواد ذات الصلة، فذلك مالٌ كان يتسرّب من جسد الاقتصاد خفيَةً، فعاد إليه محكومًا بالنزاهة. ومن الطبيعي أيضًا أن يهدأ الاستهلاك حين يُعاد تشكيل الهيكل الإداري للدولة على نحوٍ يرشّق الأداء ويقيس الكفاءة، فتزول البدلات والعلاوات التي نشأت في زمن الترهل، وتستقر المداخيل على قدر العطاء لا على اتساع الجهاز. فذاك خفضٌ في الإنفاق ظاهرُه انكماش، وباطنه ترشيد.
وكذلك يتأثر القطاع الخاص حين تُراجع الدولة عقودها ومناقصاتها وتُصلح ممارساتها، فيفقد بعضه ما كان يعتاده من سيولةٍ سريعةٍ قائمةٍ على الاستعانة لا على الإنتاج، فتتراجع مؤقتًا دورة الطلب قبل أن تستعيد توازنها على قاعدةٍ أصلب من الكفاءة والمنافسة. فالإصلاح هنا ليس نفيًا للإنفاق، بل تنقية لمجاريه من الشوائب، وردٌّ للمال إلى وظيفته في البناء، لا في التكرار.
وهكذا يمتدّ الأثر إلى الاجتماع، إذ تتبدّل السلوكيات والعادات في إنفاق الأفراد كما تتبدّل في إدارة الدولة، فيتعلّم الناس أنّ ما كان متاحًا بيسرٍ في زمن الريع، لا يمكن أن يبقى كذلك في زمن الإنتاج، وأنّ الوفرة لا تُقاس بما يُنفَق، بل بما يُستثمَر ويُنتَج. فالإصلاحات التشريعية والسياسية والإدارية والاقتصاديّة والاجتماعية، وإن اختلفت وجوهها، متشابكة في أصلها، وكل إصلاحٍ منها يمس وجهًا من وجوه الإنفاق العام؛ حتى إذا اكتمل البناء استقام الميزان، واعتدل الإنفاق في مقصده كما اعتدلت الدولة في نهجها.
فما من إصلاحٍ إلّا وله ثمنٌ قصير الأجل، ولكنّ كلفته إلى زوال، وجدواه إلى بقاء. أمّا التمسّك بالاستهلاك الريعي القائم على عائدٍ لا يُنتَج، فرخاءٌ خادعٌ يُشبِع اليوم ويُفقِر الغد. فإن كان انخفاض الإنفاق الراهن ثمرة مراجعةٍ رشيدةٍ تُدرك الدولة تبعاتها وتُهيّئ لها الأدوات، فذلك خيرٌ من رخاءٍ زائفٍ يُطيل الاعتماد ويؤخّر النهوض. فالكلفة التي تُنفَق في سبيل إصلاحٍ منتِج، وإن بدت ثقيلة في يومها، أيسر من كلفة زمنٍ يُهدَر في انتظار عائدٍ ريعيٍّ آفل. فليكن الانخفاض إذن درسًا في التعقّل، لا مناسبة للتوجّس؛ فإنّ الأمة التي تقبل مشقّة الإصلاح تُوفَّق لثمرته، والتي تخشى ألم التغيير تبقى رهينة عافيةٍ شكليةٍ تُخفي تحتها العجز.
المقاربة الفِنسِياديّة.. بين مقتضى التناقض ووحدة الغاية
على هذا النحو، فإنّ نجاح آليّات الإصلاح التي تناولتها القراءة السياديّة، وما ترتّب عليها من انخفاضٍ في الإنفاق والاستهلاك، لم يكن ليبلغ غايته لو لم يتقاطع مع العلل الإداريّة والسياسيّة التي أُشير إليها في القراءة الفنيّة. فما بدا مفاجئًا في القرارات الإداريّة لم يكن عفوًا، بل مقصودًا ليتحقّق به الاتّزان بين النزاهة والفاعليّة؛ إذ لا يُصان السوق من ممارسات تضارب المصالح إلّا إذا جاءت الإجراءات على غير توقّع، تُغلق منافذ التسرّب، وتُبقي أهلها في يقظةٍ تحول دون استباق المعلومة أو استغلالها. وكذلك الشأن في القرار السياسي؛ فالتريّث فيه ليس بطئًا في الفعل، بل حصافة في التدبير، تقتضيها مرحلة تُعيد فيها الدولة بناء منظومتها التشريعيّة بأوسع مراجعةٍ عرفتها منذ عقود، فلا عجب أن يتقدّم التأني على الاندفاع، وأن يُستبدل الحذر بالعجلة.
أمّا العلّة الفنيّة، فهي في ما يجري على العالم بأسره من دوراتٍ وتصحيحاتٍ لا سلطان لإرادةٍ وطنيّةٍ عليها. وأمّا العلّة الاجتماعيّة، فهي من المسلّمات، إذ لا إصلاح اقتصاديّ بلا كلفةٍ اجتماعيّةٍ ترافقه، وكما لا يُقام بناء جديد بلا غبار هدمٍ يسبقه. وهكذا، يتبيّن أنّ ما بدا اختلافًا في العلل إنما هو تآزر في الغاية؛ فالإدارة تُباغت لتصون نزاهتها، والسياسة تتأنّى لتضمن حصافتها، والمجتمع يتحمّل كلفته ليثبت رشده، لتلتقي هذه العناصر جميعًا عند مقصدٍ واحد: أن تُبنى القوّة على الاتّزان، وأن يُعاد تعريف الرخاء بالاستدامة، لا بالوفرة.
غير أنّ سؤالًا يبقى مطروحًا في ضمير المرحلة: ما جدوى التأويلات والحلول التي تُنادي بتخفيف وقع الانكماش، إن كانت كلفتها العدول عن طريق الإصلاح نفسه؟ أيُراد للاقتصاد أن يستبقي رخاءً عابرًا يُسكّن الألم، أم أن يحتمل ألم التحوّل ليُقيم بنيانًا أصلب؟ فالكلفة التي يُحدثها الانكماش، مهما ثقلت على السوق والناس، تبقى محدودة الأمد، تُدركها الدولة بتدبيرها وتحتويها بمرونتها، أمّا كلفة العدول عن الإصلاح فهي أعمق وأطول أثرًا، إذ تُبقي البنية رهينة الاعتماد وتؤجّل النهوض إلى أجلٍ غير مسمّى. فليس من الحكمة أن يُستبدل ألم التصحيح بوهم الطمأنينة، ولا أن يُقدَّم سلام اللحظة على سلام المسار؛ لأنّ الأمم لا تنهض إلّا بثمن، وأكرم الأثمان ما يُدفَع في سبيل النضج لا في سبيل الارتخاء.
إن ما يُرى من انخفاضٍ في الإنفاق الاستهلاكي ليس شأنًا إحصائيًّا خالصًا، بل امتحانًا للعقول في مداركها؛ إذ لا يُوزَن الاقتصاد بميزان الأرقام وحدها، بل بمدى ما تنطوي عليه من إرادةٍ توجّهها الدولة ومقاصدٍ تُدبّر بها أمر البناء. فالأرقام تصف الأثر ولا تُدرك الباعث، وتُظهر الحركة ولا تكشف النيّة؛ أمّا الإرادة فهي التي تُقيم التحوّل وتمنحه معنى الإصلاح إذا وُجّهت إلى الغاية الرشيدة. ومن الإجحاف أن تُقرأ الظواهر بعين السوق دون عين الدولة، أو أن يُحكم على الإصلاح بمقدار ما يُحدثه من بطءٍ في السطح، دون ما يُشيّده من ثباتٍ في الجذور؛ فإنّ البطء في موضع الحكمة تقدّم في صميم التدبير، والحركة التي تُبنى على البيان أرسخ من الوثبة التي تُقام على العجلة.
ولأولي الرأي أن يتأنّوا في تأمّل ما يرون، وأن يُنصتوا لصدى ما قالوا؛ فلا يستوحشوا من ملامح الإصلاح إذا بدت مغايرة في صورتها عمّا تصوّروه في فكرهم، ولا يُنكروا على الواقع ما كانوا يدعون إليه، ولا يستبطئوا ثمارًا هم من زرعوا بذورها بالفكر والدعوة والإلحاح. فالإصلاح حين يغدو فعلًا محسوسًا لا يكون خروجًا على الرأي الرشيد، بل امتدادًا له في الزمن؛ وما التباطؤ فيه إلّا حكمة المسير، تُنضج الغاية قبل أن تُعلنها.
وفي الميزان الأخير، ما الأرقام إلّا ظلّ، وما الحقيقة إلّا إرادة هادئة تُحسن التدبير.
فاللهمّ أبرِم لهذه الأمّة أمرًا رشدًا..