نشر في
الحمد لله على أن أفاض على أهل الكويت بنِعمة الأمن، وألقى في ربوعها سكينة تُطفئ لهيب الفتن، وبسط لهم من رزقه ما يَسَع اليوم وغدًا، وأنعم عليهم بدار تُضاء بلا كُلفة تذكر، وماء ينساب مورده، وقوت يجده الفقير والغني سواء، وعلم يُنال بغير أثقال، ودواء يُعطى بغير امتهان. نِعَم إذا عُدّت كثُرت، وإذا شُكرت دامت، وإذا أُهملت انقلبت امتحانا يُميّز الشاكر من المُسرف، والمصلح من المُفسِد.
«الدعوم».. حينما تُختبر النّعَم بفَيضِها
غير أنّ للنّعَم سنناً لا تحابي أحداً، إذا بُذّرت بغير رُشد، صارت كالمطر حين ينسكب على شعاب لا تُمسك ماء ولا تُنبت عشباً، يذهب هدراً، ثم لا يبقى غير طمي يعكر الجدول. هكذا شأن «الدعوم»، وقد تفرّعت مواردها، وتشعّبت وجوهها، في المساكن التي تُقام بغير مَغرمٍ يُرهِق، والماء المسكوب عذبًا على الأبواب، والكهرباء المجلوبة من ليل إلى نهار بغير ثمن يُذكَر، وفي التعليم الذي يُمنَح كالميراث لا يُشترى، والدواء الذي يُؤخَذ بيمين العافية لا بيمين المال، بل وفيما تمتدّ إليه كفّ الدولة من رِفق بالوافد، تُؤويه وتُعينه على مؤونته.
ثم هناك وجه آخر لا تُمسكه اليد، ولكن تُدرِكه الحواس، خفي الصورة جليل الأثر، يُطلّ من الطرق التي شُقّت في الصخر ليتيسّر بها المعاش، ومن المرافق العامّة التي تُقيم للعيش نظاماً، وللرفاه سبيلا، ومن ظلّ الأمن الممدود على الديار، إذ لا عَيش لولا سكينة تُظلّه، ولا رخاء لولا طريق يُعبّد له. تلك نِعَم تجري مجرى الهواء، فهي من العطاء أرقى صوره، ومن الرعاية أبلغها أثرًا، تُصلِح ما بين الإنسان ومكانه، وتُقيم في الأرض سكينة تُشبه السّلام إذا نزل.
نِعَم عمّت بركتها الدار والمقيم، غير أنّها إذا طالت الأيدي إليها بغير ميزان، تُطمئن القلوب أوّل الأمر، ثم تستدرجها إلى خِفّة التقدير وثِقَل العاقبة، يتّسع بها إنفاق من أغناه الله، ويضيق بها قَدْر من يحتاج، وتزدهر بها أرباحُ من تيسّر له باب من الأبواب، وتذبل بها مصالح من سُدّت في وجهه منافذ الرزق. فلا هي رفعت كلّ محتاج، ولا هي عَدَلت بين الناس في القسمة، وإنما خلخلت ميزان السوق، واندثرت بها معالم الحق بين استحقاق ومقدرة.
وليس الكلام في اتهام الناس، فالجبل لا يُلام على ظلّه، إنما الكلام في صوغ «تشريع» يردّ كلّ ظلّ إلى قائمه، ويجعل للنّعمة سياجا من رُشد وعدل. فقد طال فينا عهد تُساق فيه الأرزاق العامة سوقا يُشبه السماحة، حتى إذا جاوزت حدّها صارت بابا لإسراف لطيف لا يُرى في أوّل يومه، ثم يُرى أثره في آخر الطريق: موارد تُستنزف، وخزائن تُرهق، وقلوب تسأم من فوات ما كان يُنتظر من عمران ورفعة.
إنّ في الناس طبائع، منهم من إذا أُعطي شكر فقنع وسدّ خَصاصة، ومنهم من إذا كثر عنده السيل أغرى أرضه بالإفراط، لا يرى من الماء إلا ما يبلّ عطشه، وينسى أن للآخرين نصيبا. وكذلك السوق: إن طاب هواؤها اعتدل زرعها، وإن كثر فيها ما يُهدى بغير حساب جمحَت همم التجار إلى وجه غير وجه الإتقان، وصار الفارق بين ثمن وثمن موردا للربح، لا الفارق بين صنعة وصنعة. فهنا تُغتال الجودة على مهل، ويُستبدل العمل الجميل بالاقتناص اليسير، وتُبنى الأرباح على التفاوت بين عطاء الدولة وثمن السوق، لا على فضل إبداع ولا حِذق إدارة.
وليس هذا بدعا من الناس، فهو طبع يستدعي سياسة. وإنما يأتي الخلل حين تُترك الطباع بلا حاكم، ويُظنّ أن الإسراف يُصلِح ما أفسدته السنوات. والإسراف ليس كثرة العطاء فحسب، بل أن يوضع العطاء في غير موضعه، وأن تُمنَح الكفّ السخية بلا بصيرة تقرأ أثر العطاء في العباد والبلاد.
غاية القول: لسنا نروم نزع نِعمة، ولا نطلب شدّة بعد رخاء، ولكننا نُحِبّ أن يُعاد ترتيب البيت على «تشريع» يعصم النّعمة من التبديد، ويصل ما انقطع بين العدل والكفاية. العدل أن يُعامل الناس على قدر الحاجة لا على صدفة الموقع، والكفاية أن تُثمِر الدنانير العامة صلاحا عاما لا رخاء فِئة. وما أكثر ما يصير فيه الكرم على غير قياس بابا لظلم خفيّ: ينتفع الأوسع يدا بقدر أكبر، لأن حظه من التصرّف أعلى، بينما لا يبلغ الضعيف من النّعمة إلا طرفا. فإذا استحكم هذا التفاوت، صار «الدعم» الذي وُضع لرفع الكلّ سلّما لارتفاع بعضهم على بعض.
أركان التوصية.. برِفق لا يُضيّع حزماً وعدل لا يُثير ضغينة
إنّ الإصلاح الحقّ هو أن ننقل الناس من عهد العطايا المرسلة إلى عهد العدل المُحكم، لا صدمة فيه ولا غِرّة، بل هو سَير على مهل، تُسبق فيه الخطوات بالبشرى لا بالنّذر. فإذا اطمأنت النفوس إلى أن كفّ الدولة ما زالت مبسوطة، وأن التبديل ليس حرمانا بل هو تدويرٌ للقسمة، قَبِل الناس ما كان يرفضونه لو جاء دفعة واحدة.
أ ـ من الجمود إلى تدرّج معلن: لا قفزات، بل ثلاث محطات، بينها فُسحة لالتقاط الأنفاس، فإن غلا العيش فوق حدّ الاحتمال، أُوقِف السير حتى يستقيم الميزان من جديد. تلك سياسة تَسكن إليها القلوب، لأنها تُشعرها بأنّ الدولة لا تختبر صبرها، بل تحرسه.
ب ـ من مسطرة المساواة إلى ميزان العدل: على أنّ المساواة، وإن بدا وميضها جذابا، ليست كلّ العدل، إذ كم من مساواة تُسلّط القويّ على الضعيف من حيث لا نشعر! إنما العدل أن تُحمى الذرية والكهول وأهل الحاجة بستر لا يَعريهم، وأن تُترك أبواب اليسر لمن أغناه الله، ثم يُقاس لكلّ بقدره. قِسط إنسانيّ من الثمن يُبقي للضروريات وجه الرّخص، ثم ما زاد فلكلّ فيه من اسمه نصيب. هكذا يهدأ قلب الأسرة، وهكذا يتأدّب الإسراف حين يشعر بأن للنّعمة من يحرسها.
ج ـ من متاع السّلعة إلى فضل العِوَض: وأما العطاء في قالب السلعة، فكم أفسد من طباع! يثقل المخازن ويخفّ عن الجيوب، لكنه لا يُعلّم الاقتصاد ولا يُربّي على التدبير. إنّ العِوَض المباشر أنقى وأعدل، يصل إلى اليد بكرامة، ويترك لصاحبها أن يتصرّف، ويحملُه على أن يزن كفّه بميزان العقل، لا بميزان السوق. فإذا به يختار، وإذا بالاختيار يهذّب الرغبة، وإذا بالرغبة تلتحق بالحاجة، فتخفّ أرجل الإسراف.
د ـ من تشظّي العطاء إلى مركزيّة الإدارة: ثم إنّ الرئاسة على الأسعار ينبغي أن تُرفع إلى هيئة لا تُخيفها العاطفة، تقول للناس ما تُكلّفه الخدمة وما يُهدَر في الطريق، وتنشر الحقائق، وتُقيم ميزانا لا يميل. فالناس أعداءُ ما جهلوا، فإذا بان الحساب انقشع الشكّ، وإذا رأى العامّة وجه الكلفة، استقام فيهم معنى المشاركة. على هذا النهج تُبنى الخطوات: يُمهّد لها بقول صادق يَشرح، ويُسبق كلّ تبديل بعِوَض يَسدّ أثره، ويُجعل لتصاعد الأثمان سقف لا يتخطّى، فإذا طغى الغلاء رُدّ إلى حدّه.
هـ ـ من سطوة الاستهلاك إلى فضيلة الكفاية: إذ تُربّى الصنائع والزّرع والبحر على ميثاق بين الدولة وأهل الكسب. فمن أحسن عملَه ورشّد استهلاكه ورعى أبناء بلده، فله فضل السعر ورِفق الدولة، ومن أسرف أو توانى، حمل كِفلَه ولا يجد إلى التذرّع سبيلا. وما أُنفق بالأمس في دعوم جاوزت مواضعها، لا يُترك رمادًا تلهو به النسائم، بل يُعاد توجيهُه إلى موارد تُحيي الحِرفة وتُقيم المشروع وتخدم الناس جمعًا، ليُستبدل العطاء الاستهلاكيّ بتنمية تُنبت الرزق وتُعزّز الكفاية. فبذلك تُدار النّعمة من يد إلى يد، لا ليستهلكها الأفراد في يومها، بل لتُثمر للأجيال غدَها، وتقوم التنمية على سوق يعمل، لا على مورد ينضب، فيغدو ما كان إسرافًا بالأمس رافدًا من روافد الاستقلال، وما كان عونًا عابرًا قاعدة لاقتصاد متين يُنشئ الوظائف، ويصون الرفاه، ويُخفّف الوطء عن كاهل الدولة حين يقلّ عطاء النفط.
«الدعوم».. حينما تُرشّد النّعَم بفَضلِها
بذلك، تنتقل الأرزاق الممنوحة في بعض الأبواب من وجه العطاء المكدّس إلى ضياء الاختيار، فيُشدّ الصرف في ما كثُر فيه التبذير، ويُبقي للضروريّات استثناءَها ريثما يشتدّ ساعد القدرة، وتُوزّع أدوات الترشيد كأنها مفاتيح للنجاة من حدّ يقترب، لا سياط للعقاب.
فإذا استقرّت الأقدام وثبتت المعاني، جاء وقت تثبيت العقد الجديد: مراجعة مأمونة للأثمان لا تُفزع أحدا، وعِوَض باق لأهل الحاجة، وبأس على من استباح موارد الناس إسرافا، يُؤخذ منه بقدر ما ألقى على الأعناق من أثقال. ويُنظَر إلى البلاد بعينٍ تُراعي أطرافها، فالمسافة في بعض المواضع تُضاعف نفقة العيش، والظلال القديمة في المساكن تُثقِل في القيظ ما لا تُثقله البيوت الحديثة، ومن العدل أن يُراعى هذا الفارق، فليس الناس نسخا متشابهة.
ولا تمامَ لشيء إلا بشفافية تُداوي الشكّ، وهيئة تبسط الأرقام للناس، ومجلسٍ من أهل الرأي والصناعة والتجارة والعامة يتناصحون قبل أن تصدر الكلمة. هكذا تُصان القلوب من الوَجَل، وهكذا يُصبح الإصلاح حديث مجلس لا حكم غَفلة.
إنّ الحقيقة المرّة، وقد آن أن تُقال، أنَّ «الدعوم» في صورتها الراهنة، ربما لم تَعُد تعدل بين الناس، وإن ظنّ أكثرهم أنها تفعل. ومن الوفاء للنّعَم أن نردّها إلى مسار يبقيها ويُكثّرها، لا إلى مسار يستهلكها ويذروها في الريح. ليس المقصود أن نقتّر على الناس، بل ان نحمل كلّ نِعمة على قدَرها، فنُغني المحتاج بحقّ، ونَحدّ من شراهة المُترَف بقدر، ونردّ ميزان السوق إلى كفّة لا ترجح إلا بعمل صالح أو صنعة متقَنة.
إنّ يد الدولة إذا صلحت قِسمتها، ويد الناس إذا صلح عقلها، التقتا على طريق واحد: طريق تُحفظ فيه النّعمة بالشكر، ويُصان فيه المال بالعدل، ويحمل فيه كلّ امرئ وزر إسرافه قبل أن يحمّله الناس عواقبه. إنّ الكويت قادرة، بعون الله، أن تجعل من إصلاح «الدعوم» درسًا للمنطقة في الرّفق الذي لا يُضيّع الحزم، والعدل الذي لا يُثير الضغينة، وعندئذ يُقال: نِعمة رُشّدت فدامت، وعدالة أُقيمت فاطمأنّت لها القلوب، وبيت أُعيد بناؤه على قواعد لا تميل.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا..