قراءةٌ تستشرف السوق حين تُجاوِز الدولة «ثلاثيّة التعثّر» نحو «رباعيّة الاستدامة»، وتنذر المتّجر بأن زمن الربح السهل انتهى، وأن عهد أهل «سباعيّة العدّة» قد أقبل.
ليس أوهى ما يقع فيه المتّجر أن يخطئ تقدير منافسٍ قريب، بل أشدّ منه أن يخطئ تقدير المرحلة نفسها؛ فيقرأ الحاضر بعيون الأمس، ويُعامل الزمن كأنه يكرر ذاته، ويظنّ أن ربحًا كان ميسورًا في عقدٍ مضى سيظلّ ميسورًا في العقد الذي يليه. فكثيرٌ من الأنشطة بُنيت على يقينٍ موهوم بأن السوق تمنح العائد ما دام صاحبها حاضرًا فيها، وأن الفضل يعاود من اعتاد عليه، كأنه عهدٌ لا ينقض. غير أنّ الخليج اليوم، والكويت في قلبه، لا يقفان على بوّابة زمنٍ جديد فحسب، بل على ملامح «فِقهٍ» مُغايرٍ في الإدارة؛ «فِقهٍ» يُرى أثرُه قبل أن يبرز عنوانُه، وتتكشف معالمُه قبل أن تُعلن مصطلحاتُه. «فِقه» تكشفه سلسلةٌ من المعطيات التنظيمية والإدارية والهيكلية والتشريعية التي توالت في الأعوام الأخيرة؛ فلا يُفهم كلٌّ منها على انفراد، بل يتجلّى معناها حين تُقرأ مجتمعةً قراءةً مضمرة؛ قراءةً لا يدركها إلا من اعتاد أن يصغي لحركة الدولة، لا لأصوات السوق وحدها. وهذا «الفِقه» إنما يدلّ على زمنٍ جديد؛ زمنٍ تضيق فيه مسالك الربح السهل، وتشتدّ فيه معايير الكفاءة، وتعلو فيه قيمةُ العمل على قيمة الموقع، وتقدّم فيه الأسواق منطقَ الإنتاج على منطق الوساطة.
ومن هنا، ينبغي على كلّ متّجرٍ أن يضع في رأس دفاتره استنتاجًا لا يُهمل: أن الربح في السنوات المقبلة لن يُنال إلا بـ(١) نشاطٍ يحمل قيمة لا تُبتذل، و(٢) ميزةٍ لا تُقلّد، و(٣) قدرةٍ إنتاجيةٍ لا تتوقف، و(٤) توسّعٍ يليق بزمنٍ تتغيّر فيه الأسواق بسرعةٍ تتجاوز وعي العامة. أمّا الأنشطة التي تقوم اليوم على امتياز فائض الطلب الاستهلاكي، أو التي جعلت من دور الوسيط أصلًا لا فرعًا، أو التي اعتاشت طويلًا على ثغراتٍ تنظيمية لم يعد لها موطِئٍ في «فِقهِ» هذا التحول، فستتراجع لا محالة، مهما بدا لأصحابها أنهم على صهوة ازدهار عابر، لأن المرحلة المقبلة لن تُبقي إلا ما بُني على ركنٍ صلب، ولن تُنبت إلا ما ترويه الكفاءة لا الظلال.
وما يُرى اليوم من نجاحٍ مستقر قد لا يكون سوى فسحة هادئة تسبق الامتحان الأكبر؛ امتحان حزم الدولة في إعادة ترتيب أولوياتها، وامتحان السوق وهي تعيد صياغة قواعدها، وامتحان المتّجر حين يُسأل: أَعدّ لنشاطه عدّة البقاء، أم اكتفى بعائد مرحلةٍ لن تتكرر على الهيئة التي عرفها؟ والحقّ أنّ القادم ليس تهديدًا، بل كشفٌ يكشف مبلغ كلّ مشروع، ويضع كلّ متّجر أمام حقيقته: إمّا أن يستعدّ من الآن، وإمّا أن يحمله الغد على ما لا يريد.
«فِقهُ» المرحلة.. بين عائد الولاء وكلفة الاستمرار
لم تكن البدايات الخليجية، وفي قلبها الكويت، عهودًا تُتاح فيها رفاهية المقارنات، ولا يُقاس فيها القرار بموازين اليوم؛ فقد قامت الدولة يومئذٍ في محيطٍ مضطرب، وعلى مجتمعٍ لم تستتمّ فيه بعدُ أدوات الإنتاج الحديث، كما لم تتكوّن فيه بنيةُ اقتصادٍ قادرٍ على حمل ذاته، ولم يبلغ قطاعه الخاص مبلغ القدرة على حمل عبئه بنفسه. ولهذا مضت الدول، مضيّ العاقل، حين يستشعر فراغًا قد ينفذ منه الخلل، إلى تثبيت ثقةٍ عامة تسبق كل بناء، وإلى ترسيخ ولاءٍ جامع يمهّد لأي توسّع اقتصادي لاحق، لا استرضاءً عابرًا، بل درءًا لاهتزازٍ كان يمكن أن يعصف بما لم يشتدّ بعد. وكانت آليات الرعاية والمساندة، وبسط المظلّة الاجتماعية، وطمأنة الناس في معاشهم، لا تعبّر عن رؤية اقتصادية مكتملة، بقدر ما كانت تعبيرًا عن «فِقهِ» مرحلةٍ كان فيها جمع الشمل مقدّمًا على امتحان الكفاءة، وتثبيت السكون الاجتماعي أصلًا سابقًا على قياس الإنتاجية؛ كمن يشدّ أوتاد منزله في أرضٍ رخوة.
ومن يعيد قراءة تلك الحقبة بعيون هذا العصر قد يرى في تلك الآليات شيئًا من عدم الانسجام مع معايير اليوم؛ غير أنّ النظر الصحيح يعيدها إلى موضعها: فهي لم تكن خطأً، بل ضرورةً تاريخية لا يستقيم لها كيان ناشئ من دون سندٍ يُطمئن أهله، ولا يتهيّأ لمنافسةٍ خارجية قبل طمأنة الداخل وترتيب أولوياته. فالدول، شأن الأفراد، تمرّ بأطوار تحتاج فيها إلى الكفالة قبل القدرة، وإلى الحماية قبل المنازلة، وإلى سكونٍ يُهيّئها لصعودٍ أشدّ. ولهذا لم تكن تلك السياسات، بما حملته من كلفة واتساع، تنعّمًا أو إسرافًا في غير موضعه، بل كانت ركنًا أصيلًا في تثبيت البنيان الوطني. ولا شك في أن طبيعة منشئها لم تكن نهجًا مؤبّدًا، ولا شأنَ لها بأن تكون كذلك، بل مرحلة تسبق ما يليها من أطوار وحسب.
تلك كانت ملامح ذلك الطور. وما إن استقام ذلك البنيان واشتدت دعائمه، حتى أخذت طلائعُ مرحلةٍ مغايرةٍ تلوح في الأفق؛ مرحلةٍ لا تشبه ما سبقها من أطوار التأسيس. فقد كان النهج الأول، نهجُ الطمأنة وتسكين الهواجس، صالحًا لعهدٍ كان فيه ثباتُ المجتمع شرطًا أساسيا، وكان فيه درءُ الاضطراب مقدّمًا على اختبار الكفاءة. غير أنّ الزمن، بطبيعته التي لا ترسو على حال، بدأ يكشف في هدوءٍ أنّ ما كان مُجدِيًا بالأمس، لم يعد وافياً اليوم، وأن الأدوات التي أثمرت في طور البناء الأول، لم تعد تحمل من القوة ما يمكّنها من حمل المستقبل. فمع اتساع حاجات الدول، وتعاظم أعبائها، وتشابك علاقاتها في عالمٍ تتناهشه المنافسة، بات من البيّن أنّ كلفة الولاء التقليدي فاقت ما يعود به نفعُه، وأن آليات الاسترضاء التي نجحت في زمن الوفرة لم تعد قادرة على تأمين استمرار دولةٍ تطمح إلى موضعٍ راسخ بين الأمم؛ دولةٍ تُقاس مكانتها بقدرتها لا برضاها، وبإنتاجها لا بمحاباتها، وبكفاءتها لا بتوازناتٍ عارضة.
ولم يكن الميلُ إلى هذا التحوّل نزوةَ ساعة، ولا ابنَ قرارٍ عابر، بل ثمرة إدراكٍ هادئ بأن الآليات القديمة، وإن كانت حكيمةً في عهدها، فقد أدّت دورَها واستوفت غايتها. فالدولة الحديثة لا تستطيع أن تبقى رهنَ طمأنةٍ دائمة، ولا أن تجعل إنفاقها أسيرًا لطرائقٍ وُلدت في عصرٍ مختلف، ولا أن تُوازن بين الداخل والخارج بظلّ اقتصادٍ لا يقوى على حمل ذاته. وما لم تملِك الدولة قدرةً راسخةً على إنتاج ما يكفي لحفظ قدرها، فإن سياستها ستبقى مرتهنة لغيرها مهما بلغت نواياها من حسن.
ومن هنا مال ميزان الدولة، في صمتٍ محسوب، إلى «فِقهٍ» مغايرٍ، غايته الاستدامة قبل الرضا، والقيمة قبل الاتساع، والتمكين قبل التسكين. لم يكن ذلك نقضًا لـ«فِقهٍ» مضى، بل تطورًا طبيعيًا في «فِقه» الحكم؛ انتقالًا من عهد التطمين إلى عهد البناء، ومن عهد الاتكال إلى عهد القدرة. فالولاء الحقيقي في الدولة المعاصرة لا يُشترى بعطايا، بل يُبنى مع مجتمعٍ يدرك أن رفاهه لن يقوم على دعةٍ تُمنح، بل على عملٍ يُنتج، وأن مستقبلَه لا تحفظه المساندة وحدها، بل الكفاءة التي تليق بموقعه، والطموح الذي يليق بدولته.
انعطافة المسار.. بين يقظة الرياض وإدراك الكويت
في عام ٢٠١٦، حين أعلنت المملكة العربية السعودية رؤيتها ٢٠٣٠، بدا لمن يقرأ حركة الأمم في قرارها العميق أنّ العالم يقف على عتبة طورٍ مختلف؛ طورٍ تُوزَن فيه الدول بما تُشيّده من عناصر القوة، لا بما تختزنه من وفرةٍ تُوشك مواردُها على النضوب. فلم يكن ذلك الإعلان مجرّد خطةٍ تنموية واعدة، بل كان إشارةً صريحة إلى أنّ عهدًا من إدارة الوفرة قد أدّى دورَه، وأنّ الزمن يميل نحو «فِقهٍ» لا يعتدّ إلا بالإنتاجية وكفاءة الإنفاق، ولا يُقيم للحضور السياسي وزنًا ما لم تُعضّده ركائز اقتصادية قادرة على الثبات. وقد أحسنت الرياض قراءة قواعد الزمن الجديد، إحسان الدول التي أدركت لحظتها التاريخية، فمضت مبكرًا في طريقٍ لا يبلغه إلا من عرف موضع المبادرة وساعة اغتنامها.
وحين تسارعت خطوات بقية دول الخليج، كان انتقالها إلى الإدارة الحديثة أسرع بحكم بنيتها وموقعها، أمّا الكويت فكانت تُحيط بها طبقاتٌ من الإرث الإداري والاجتماعي تراكمت عبر عقود، ولم يكن تجاوزها بالأمر الذي يُبتّ فيه بقرارٍ منفرد أو تعجّلٍ غير محسوب. ومع ذلك، فقد وقع منذ مايو ٢٠٢٤ ما يشي بأن الدولة قد اتّخذت «فِقهًا» من طرازٍ مغاير؛ «فِقهًا» لا يُعلن بصخب، بل يتبدّى في هيئة القرارات، ونبرة العمل، وإيقاع الأداء العام. فمنذ ذلك التاريخ، اتخذت الدولة مسارًا هادئًا في ظاهره، عميقًا في أثره: معالجةٌ لا تُقارب المخالفة ذاتها فحسب، بل البيئة التي سمحت بها؛ وتشريعاتٌ لا تعالج الجزئيات، بل تعيد رسم علاقة الدولة بسوقها؛ وإعادةُ ترتيبٍ في الهياكل، لا يُقصد به تدويرُ المواقع، بل تصويبُ النهج؛ وتحولاتٌ رقابية وتجارية تُقدّم معيار الجودة على إرث المجاملة، وتُميّز بين الفاعل والمتكئ، وبين من يرفد السوق ومن يثقل عليه.
وفي الأيام القليلة الماضية برز شاهدٌ أوضح من سواه على وجهة المرحلة؛ إذ أُعيد النظر في أحد أهم أبواب الإنفاق العام، ففُتح المجال أمام الشركات العالمية للدخول المباشر في المناقصات، من غير ذلك القيد الذي لازَم بيئة الأمس. ولم يكن هذا الإجراء تفصيلًا إداريًا، بل علامةً بيِّنةً على أنّ الدولة لم تعد تقبل أن يكون التشريع حائلًا بينها وبين كفاءة الإنفاق؛ فإذا لم تتوافر في السوق المحلية الكفاءة التي تتطلّبها أعمال الدولة، أُعيد بناء التشريع ليُفسح المجال لمن يملك تلك القدرة، أكان من الداخل أم من الخارج. وليس هذا المسار تفضيلًا أعمى للوافد على المحلي، بل ترتيبٌ جديد للأولويات: فالكفاءة في الإنفاق، والإنتاجية في العمل العام، تُقدَّمان على سائر الاعتبارات، لأن الدولة لا تُقيم وزنها في عالم اليوم بما تُراكمه من دعمٍ أو حماية، بل بما تُحسن توجيهه من موارد وقدرات. وتشي هذه الخطوات المتتابعة بأنّ الكويت لم تعد تنظر إلى الإصلاح بوصفه مساراتٍ متناثرة، بل بوصفه مشروع دولةٍ تُستأنف فيه قراءةُ مفهومِها، ومفهومُ السوق التي تدور في فلكها، ومفهومُ المواطن الذي تنهض به؛ مشروعٌ يجعل كفاءة الأداء أصلًا ثابتًا، ويجعل التشريع خادمًا للمقصد الأعلى لا قيدًا يُعطِّل غاياته.
وليس هذا التحوّل في المسار، مهما بدا مظهره إداريًا، إلا تبدّلًا في «فِقهِ» الحكم ذاته: انتقالًا من نهجٍ يقوم على التهدئة الاجتماعية إلى نهجٍ يقوم على الاستدامة الاقتصادية؛ ومن عهدٍ تُحفظ فيه التوازنات بالمحاباة، إلى عهدٍ تُحفظ فيه الدولة بقدرتها على إنتاج القيمة. إنّه إعلانٌ غير معلن بأنّ السنوات المقبلة لن تكون استمرارًا لما مضى، وأن الدولة، بقياداتها ومؤسساتها، اختارت أن تستعيد مكانها بين الأمم قبل أن تتجاوزها حركة الزمن.
«فِقهُ» البقاء.. بين «ثُلاثيّة التعثّر» و«رُباعيّة الاستدامة»
لم تكن الدول الرشيدة يومًا تُساق بوحي ساعةٍ عابرة، ولا تُرسم مقاديرها استجابةً لظرفٍ طارئ؛ فالدول، حين تبلغ من الوعي مبلغًا، لا تتحرك إلا حين يتبدّى لها أنّ الزمن قد انحرف عن مجراه القديم، وأن المسار الذي حملها في طورٍ مضى لن يكفل لها موطئ قدمٍ في الطور الآتي. وهكذا كان الأمر في الكويت. فمع اضطراب الموارد واتساع الأعباء وتبدّل موازين الاقتصاد العالمي، أدركت الدولة أنّ الاستمساك بأنماط الإنفاق السابقة، أو الركون إلى توازنات اجتماعية نشأت في عهدٍ غير عهدها، لن يمنحها القدرة على عبور عقدين مقبلين مُقدَّرَين لأن يكونا من أشدّ ما مرّ على الأمم من تنافسٍ وضغطٍ وتحولات.
وقد صار العالم اليوم لا يُقيم للدول وزنًا بما تختزنه من موارد، بل بما تشيّده من قدرة، ولا ينظر إلى الاستقرار بوصفه سكونًا سياسيًا، بل بوصفه أثرًا اقتصاديًا يُمدّ مؤسسات الدولة بأسباب صلابتها، وتحافظ به على مقامها في سلم الأمم. ومن ثمّ كان التحوّل الذي بدأ منذ مايو ٢٠٢٤ انتقالًا من معالجة الخلل إلى ضبط «فِقهِ» المرحلة؛ «فِقهٍ» يرى أن الدولة لا تُستدام بإرضاءٍ يُهدّئ، بل بتمكينٍ يُنهض، وأن رفاه المجتمع لا يُحفظ بالعطاء المجرد، بل بمشاركته في صناعة رزقه ومكانه.
ولو قدّر لهذا النهج أن يخبو أو يتراخى، لرأينا الكويت بعد عقدين تقف على مفترقِ «ثُلاثيّةِ تعثّرٍ» بالغةِ الدقّة: (١) دولةٌ تتثاقل تحت نفقاتٍ لا تستند إلى قدرةٍ مُولِّدة للقيمة، و(٢) موارد تتراجع مكانتها في ميزان العالم، و(٣) سوقٍ يخسر فيها المتّجر المحلي ما اعتاده من أفضلياتٍ عارضة أمام حضور عالمي لا يعترف بمكانٍ ولا قرابة، بل يقيس الناس بما يصنعون. وحينها لن يكون الخلل خلل اقتصادٍ وحده، بل خللٌ في التماسك الاجتماعيّ، يُختبر في ظل دولةٍ لم تُساير إيقاع زمنها، فغدت على هامش حركته.
أمّا إن مضت الدولة في طريقها كما ينبغي، وأُعطي التحوّل زمانه وأدواته وحَمَلَتَه، فإن الكويت بعد عقدين ستقوم على «رُباعيّةِ استدامةٍ» مختلفة: دولةٌ (١) يقلّ فيها الاعتماد على الريع ويشتدّ فيها منطق إنتاج القيمة، و(٢) يُوزَن فيها مقامُ المواطن بما يُشيّد بعقله ويديه، لا بما ينتظر أن يُلقى إليه، و(٣) تُلزِم فيها الدولة المستثمر العالمي لمعاييرها هي، بدل أن تنثني لمواءمة شروطه، و(٤) يستعيد فيها القطاع الخاص مقامه الطبيعي ودورَه شريكًا في النهضة لا مستهلكًا لعوائد الدولة.
وليس هذا التصوّر أمنية ينعقد عليها الرجاء، بل إمكانٌ واقعيّ يبدأ بتحوّلٍ إداري وتشريعي وتنظيمي، ويفضي إلى إعادة تشكيل عقل الدولة وعقل المجتمع معًا. وقد شرعت الكويت بالفعل في خطاها الأولى؛ خطًى خافتة الجرس، جليّة الأثر، تدلّ على أن الأعوام المقبلة ستقوم على ميزانٍ مختلف، وأن من لم يُهَيّئ نفسه لهذا الميزان، فردًا كان أو مؤسسة، ستلفظه حركة الزمن كما يلفظ البحرُ من ولج موجه بغير علمٍ ولا عُدّة.
سنن السوق.. من غربلة القيمة إلى امتحان البقاء
ما كانت السوقُ يومًا رقمًا يُحصى أو خطًّا يُرسَم؛ بل كانت، في طبائعها الأولى، كائنًا يتنفّس بوعي مجتمعها، وتشتدّ أو تضعف على قدر ما تشتدّ الدولة أو تضعف. فإذا استقامت يدُ الإدارة، واتّزن الحكم، واستعيد للميزان رجحانه بين ما يُستهلك وما يُنتَج، تبدّلت أحوال الناس قبل أن تتبدّل أسعارهم، وتحرّكت بصائرهم قبل أن تتحرّك قدرتهم الشرائية. فالسوق لا تغيّر سُنَنَها إلا إذا تبدّلت عقول أهلها، ولا تُظهر وجهها إلا إذا تبدّلت قواعدها.
وإذا مضت الكويت على هَديٍ مِمّا يشير إليه «فِقهُ» التحوّل، فلن يبقى المستهلك كما ألفته سنونُ الوفرة؛ تابعًا لشهوةٍ عابرة، أو أسيرًا لسلعةٍ تكتسب قيمتها من استهواء جموعٍ أو إلحاح ترويج. بل سيغدو أقربَ إلى من يزن الأمور بميزانٍ أدقّ؛ يطلب الجودة لا لما تزينه من ظاهر، بل لما تحمله من قيمة مُنتَجة؛ ويختبر السلعة كما يختبر الرجل مروءة صاحبه؛ لا يرضى بما يسدّ عوز اللحظة، بل بما يقيم المنفعة في أصلها. وحين تستقيم هذه البيئة، يسقط من التجارة كثيرٌ مما كان يُظنّ راسخًا؛ إذ تُصبح السوق كالسِّفْر القديم الذي لا يثبت على صفحاته إلا ما عقل نفعه، وما حمل من القيمة نصيبًا، وما نهض على عملٍ لا على مجرد توسّطٍ بين واردٍ ومستهلك. وحين يُعاد تشكيل السوق، لا يبقى للمتّجر الذي يقوم على التقليد أو الاتّكاء فضلٌ يُذكَر؛ فالمصفاة المحكمة لا تُبقي إلا ما ثبتت قوته، وتُسقط ما كان قائمًا على الاستسهال أو حُسن الظرف.
ومتى وجّهت الدولة إنفاقها إلى إنتاج القيمة، لا إلى الاستهلاك، تبدّلت علاقة السلطان بالسوق تبدّلًا بيّنًا؛ فلم تعد الدولة المشتري الأعظم كما كانت، بل غدت المُمكِّن الأعظم، تبني البيئة وتفتح المسالك وتُهيّئ المجال للقطاع الخاص أن ينهض بقوّته هو، لا بما تلقيه عليه الدولة من ظلال الدعم. وحين يقع هذا، تتباين أحوال السوق تباينًا جليًّا؛ فالمتّجر الذي اعتاد الاتكاء على فائض الطلب الاستهلاكي سيجد نفسه أمام مستهلكٍ لا يفاوض إلا على جودة، ولا يطلب إلا قيمة، ولا يقيم وزنًا لقربٍ اجتماعيٍّ أو إرثٍ تجاريّ، بل يقدّم الكفاءة ويجعلها معيارًا أعلى.
وعند تمام هذه الأركان، يتغيّر معنى النجاح نفسه؛ فما يُعدّ اليوم ذروةً في الرواج قد يغدو بعد حين أثرًا من آثار مرحلةٍ مضت، إلّا إذا أعاد أصحابه بناءه على قاعدةٍ أصلب من قاعدة الظرف العابر. أمّا الذين يهيّئون قدراتهم اليوم، ويُراكمون ميزاتهم برويّة، ويستثمرون في الجودة قبل الشيوع، وفي الإنتاج قبل الصيت، فهم الذين سيبلغون غايتهم حين تهدأ السوق، وتنكشف معادنُ الأعمال، ويُعرَف لكلّ نشاطٍ قدرُه. فالسوق، وإن هَدَأَت سنينًا، لا تخونُ طبعَها؛ تُمهل ولا تُهمل، تنتظر لحظتها ثم تكشف، بجلاءٍ لا يداخله التباس، مَن كان من أهل البقاء، ومَن اكتفى برواجٍ ينقضّ عند أول امتحان.
«فِقهُ» المنازَلة.. حين لا يبقى في السوق إلا أهل «سُباعيّةُ العُدّةِ»
لم يكن من طبائعِ السوق أن تُعلِن تغيّرَها في حينه؛ فهي، كغيرها من الكيانات التي تتشكّل ببطء، تُخفي تحوّلاتها خلف ستار الأُلفَة، حتى إذا اشتدّ الامتحان بدا للمتّجر ما لم يكن يراه، وظهر له من هشاشة النجاح ما حسبه في مأمنٍ من الزوال. فالرواج القائم، وإن أظهر وجهًا مطمئنًا، قد يطوي في باطنه نُذرَ انحسارٍ لا تنكشف إلا لمن أحسن قراءة حركة الدولة، واستبان طبائع المستهلك، ووعى مسار العالم الذي لا يرحم المتباطئين.
وإنّ نظرةً فاحصة إلى ما يستقبله العقد القادم تُبيّن أن السوق لن تقيم وزنًا إلا لمن حمل في نشاطه عنصرًا يرفعه: (١) قيمةً مضافة لا تستغني عنها الدولة، و(٢) ميزةً تنافسية لا تُقلَّد، و(٣) قدرةً إنتاجية تليق بزمنٍ اشتدّ فيه معيارُ الجودة، و(٤) قابليةً للتوسّع تسمح للنشاط أن يكبر مع كِبر المرحلة. أمّا الأنشطة التي تقوم على الرواج العابر، أو على مجرّد الوساطة بين واردٍ ومستهلك، أو على إعادة إنتاج ما سبق إليها غيرُها، فهي وإن بدت رابحةً في زمن الوفرة، فإنها، والأرجح من أمرها، لا تصمد في زمنٍ تُعاد فيه صياغةُ السوق على مقياسٍ آخر.
والمتّجر البصير هو من يدرك أنّ الإنفاق الحكومي، إذا استقام على التمكين لا الاسترضاء، سيُبدِّل أبواب العمل، ويفتح مسالك جديدة لا يلجها إلا مَن كان له من العُدّة ما ينهض به عند الطلب: مسالك في (٥) سلاسل الإمداد التي تتطلب موثوقيةً لا تكلّفًا، وفي (٦) الصناعات التي تكمّل ما تحتاجه الدولة بدل أن تستنسخ ما تستورده، وفي (٧) الخدمات التي تُقيم نفعًا بيّنًا لا مجرّد حركةٍ في الورق. وهذه المسالك، وإن بدت واسعةً في ظاهرها، فلن تكون إلا لمن انتقل من متَّجرٍ يستورد إلى فاعلٍ يُقيم، ومن منشأةٍ تقوم على دعمٍ وحسب إلى منشأةٍ ترفد الدولة بكفاءةٍ تزيد من قدرتها.
وحين يتبدّل طبعُ المستهلك، فيُقبل على الجودة لا على اللمعة، ويؤْثِر الدوام على الفَوْرة، وتدقّ السوقُ طبولَ المنازلة؛ فلا يبقى فيها إلا من ملك قيمةً ينهض بها مقامه، أمّا من خلا نشاطه من ركيزةٍ ترفعه، فإن حضوره يضمحلّ ولو كثرت فروعُه، وتردّدَ اسمُه في الأسماع. فالسوق، وإن بدت في أعوام الرخاء مسرحًا تتسع خشبته للجميع، فهي في حقيقتها مرآةٌ صادقةٌ تُرِي كلَّ امرئٍ ما قدّم؛ والمرآة لا تُجامِل، ولا تُخفي ما يُخفِيه التزيين. ولهذا، فإن واجبَ المتّجر البصير أن يُجري على عمله محاسبةً لا تعرف مداراة: ما الذي أقدّمه مما لا يملك غيري تقديمه؟ ما الذي أستطيع أن أشيّده بعقلي ويَدَيّ بدل أن أكتفي بنقله؟ ما ميزتي التي لا تُسقطها العواصف؟ وكيف أُخرج الربح من فَوْرة العَرَض إلى ثمرة العمل؟ لا يُنظرُ من أراد تشييدَ نفسِه في لحظة الامتحان؛ ومن لم يتهيّأ اليوم فلن يجد غدًا موضعًا يُذكَر. فالسوق لا تَظلم، ولكنها بطبيعتها تستبعد كلَّ مَن دخلَها بغير عُدّة.
فتلك، لا ما سواها، هي «سُباعيّةُ العُدّة»؛ من اتّخذها عُدّةً حصّن نفسَه في زمنٍ قام على «فِقهٍ» مغايرٍ لم تعهد المنطقةُ له نظيرًا.
مجلس الوزراء.. بين «فِقهِ» التحوّل وعزائم أهل العدّة
ليس التحوّلُ الذي بدأت دلائلُه منذ مايو ٢٠٢٤ مجرّدَ تبديلٍ في الأنظمة، ولا إصلاحًا يتتابع بعضُه على بعض؛ بل هو إعادةُ صوغٍ لمقام اقتصاد الدولة في زمنٍ يتزاحم فيه الأقوياء، وتُمتحَن فيه الأممُ بقدرتِها لا بثروتِها، وبعملِها لا بمواريثِها. غير أنّ التحوّل، مهما اشتدّت أركانُه، لا يقوم بسواعدِ الإدارة وحدَها، ولا يَستقيم ما لم يَنهض له أهلُ العُدّة من أبنائها؛ فالدولة، وإن ملكت سلطانَ التشريع، لا تنهض بمعزلٍ عن روح مجتمعِها، ولا تُقيم بُنيانًا مُنتجًا ما لم تستيقظ في أهلها إرادةُ إنشاء القيمة ذاتِها. فالأرضُ لا تُثمِر بخصبها وحدَه، بل بساعيها الذي يُحسن فلاحتَها، ويعرفُ موضعَ البذرِ وساعةَ الحصاد.
ومن هنا يبرز مقامُ رئاسةِ مجلس الوزراء، لا من حيث هي جهةٌ تُدير، بل من حيث هي قطبُ الاتّزان الذي تنتظم به أطرافُ الدولة، ويستقيم به إيقاعُ المرحلة، وتُضبَط به اضطراباتُ الزمن. ففي عهدٍ تتبدّل فيه أولوياتُ المرحلة، يصبح البيانُ واجبًا، وتغدو المصارحةُ لازمة، ويغدو كسبُ المجتمع شرطًا لا ينفكّ عن كسب المستقبل. إذ كيف يُرجى من الناس أن يحتملوا مسارًا لم يُفصح لهم عن «فِقهِه»؟ وكيف يشارك المواطنُ في بناء عهدٍ لا يدرك عللَه ومقاصدَه؟ فإنّ الفهمَ مفتاحُ المشاركة، والمشاركةُ بابُ الاستدامة، والاستدامةُ عنوانُ دولةٍ تقيم مستقبلَها على وعي أبنائها. ولا يكتمل هذا النطاق ما لم تنهض مؤسساتُ الدولة بدورها في التمهيد والإعداد؛ فهي التي تُعدّ المتَّجرين لِما تستقبله البلاد من امتحان، وتعلّم روّاد الأعمال «فِقهَ» السوق قبل «فِقهِ» الربح، وتُقيم على مسالك التجارة بيّناتٍ تقيهم العثار. فالحراك الاقتصادي لا يُبنى بأصحاب رؤوس الأموال وحدهم، بل بمن يعرف موردَ القوة، ومظنّةَ الضعف، وسبيلَ النفاذ، وطبائعَ السوق حين يشتدّ امتحانُها.
ولمّا كانت التجاربُ الحيّة أبلغَ شاهدٍ على أثر هذا النَّمط من المؤسسات، فإنّ في جوار الكويت مثالًا يكشف ما يمكن لمؤسسةٍ واحدة واعية أن تصنعه في وعي السوق وأهل العُدّة. ففي هذا المقام تلوح تجربة «منشآت» في المملكة العربية السعودية شاهدةً على أثر المؤسسة حين تُقيم وعيًا ولا تكتفي بإدارةٍ شكلية. فقد استطاعت، بمحاضنها وبرامجها وملتقى «بيبان»، أن تجمع شتاتَ الفكرة في عقلٍ يهديها، وأن تقوّم مسار المبادرات قبل أن تتعثّر في طرقها، وأن تصل روّاد الأعمال بالمستثمرين وصلًا يقوم على العلم لا على الظن، وعلى المعيار لا على المجاملة، فصار «بيبان» أشبه بسوقٍ للمعرفة، وبمنبرٍ تُختبر فيه الأفكار قبل أن تُجرَّب في السوق ذاتها. غير أنّ الإشارة إلى هذه التجربة ليست دعوةً إلى استنساخها، فالسوق السعودي له طبائعه ومعطياته؛ بل هي دعوة لالتقاط الروح التي بُنيت عليها: روحُ الفهم العميق لحاجات السوق، والقدرة على إقامة نموذجٍ ينهض من خصوصية الكويت لا من ظلالِ سواه.
والكويت، بما لها من رصيد التاريخ وخصوصية البنية وثقل الموقع، مهيّأة لأن تُقيم نموذجها الخاص، إن بُني التواصل بين الدولة والناس على بيانٍ لا لبس فيه، وإن أُشركت القوى الفاعلة في مشروع الإصلاح إشراكًا يجعلها شركاء في المقصد لا مجرّد متلقّين للقرار. فإن إصلاحًا تمضي به الدولة بلا سندٍ اجتماعي كمن يشقّ الماء بيده؛ يظهر أثره ساعةً ثم ينطبق عليه التيار. أمّا حين يتقدّم الشعب معها، ويجتمع بينهما مقصدٌ واحد، فإن التحوّل يغدو قوةً لا تُقهر، وبناءً لا تهدمه العواصف.
أفق الغد.. حين تُعاد كتابةُ الموازين
إنّ ما تقدّم ليس وقائع عابرة، بل علامةٌ على طورٍ جديدٍ يتخلّق رويدًا؛ طورٍ يعيد ترتيب العلاقة بين السوق والدولة، وبين الإنسان وعمله، وبين الربح ومقتضاه. طورٌ يشبه في بزوغه بزوغَ الفجر: لا يظهر دفعةً واحدة، بل يتسرّب على مهلٍ حتى إذا اكتمل نوره، تبيّن للناس أنّ ما كانوا يحسبونه ليلًا لم يعد ليلًا. وقد بدأت الكويت تمضي في هذا المسار؛ مسارٍ لا يمتّ إلى ما ألفته العقود الماضية بصلة، ولا يفسح لمن اعتاد رخاءً ميسورًا أن يواصل الرحلة بالعدّة نفسها. فالسوق المقبلة لن تُصغي إلا لصوت القيمة، ولن تستبقي إلا من رسّخ أصل عمله، ولن تهادن مَن دخلها متكئًا على امتيازاتٍ انقضى عهدُها، أو هو في طريقه إلى الانقضاء. فزمن الامتياز العارض قد انصرف، وزمن التمكين القائم على العمل قد أقبل.
وعند هذا الموضع يعود المقال إلى منطلقه الأول؛ إلى تلك الكلمة التي ينبغي أن تُسطَّر على رأس كل مشروع: إن الربحية في الأعوام المقبلة لن تُنال بأدوات الأمس، بل بـ(١) قيمةٍ تُقدَّم قبل أن تُطلَب، و(٢) ميزةٍ تفضيلية تُصاغ، و(٣) إنتاجيةٍ تُرسَّخ، و(٤) قابليةٍ لتوسُّعٍ مُثمِر. فما يبدو اليوم مزدهرًا قد لا يكون غدًا إلا امتحانًا لصلابته، وما بُني على أساسٍ راسخٍ لن تهزّه رياح التحوّل وإن اشتدّت.
فالغدُ ليس خصمًا لأحد، ولكنه ميزانٌ لا يُدارى فيه أحد؛ يزن الأعمال بقدر معدنِها لا بقدر جَهرها، ويُبقِي من المشاريع ما انطوت عليه من قيمةٍ تُنهض بصاحبها إلى البقاء. ومن أراد حظَّه منه، فلابدّ له أن يبدأ اليوم؛ يتبصّر «فِقهَ» المرحلة، ويعيد صوغ مشروعه على قَدَرها، ويُوقن أنّ الدولة إذا تبدّل «فِقهُ» إدارتها تبدّلت معها معاييرُ السوق، وتحوّلت مواقعُ الناس فيها، وانقلبت موازينُ الربح والخسارة كما تنقلب الفصولُ في أطوارها.
ومن وُفِّق لقراءة هذا الطور في أول نشأته أعطي من المستقبل سهمًا، ومن غفل عنه أخذه الزمن على غفلةٍ منه. فالأمم لا تُبنى بالأماني، بل تُقام على ثلاثة: صبرٍ يُمسك العزم، وعلمٍ يُضيء السبيل، وعملٍ لا يملّ مهما طال الطريق.
فاللّهم أبرِم لهذه الأمّة أمرًا رشدًا..