نشر في
تتباين الآراء حول الديمقراطية الكويتية، وما إذا كانت تشكل عقبة للتنمية لسوء تطبيقها– حسب الادعاء– مقارنة بالتجربة الفرنسية أو البريطانية، فهل من المجدي مقارنة مخرجات نظام سياسي في اقتصاد ريعي مع نظيرتها في اقتصاد مستدام؟
إن القيادة الداخلية في الكويت هي حلقة الوصل التي تربط بين دخل الصادرات النفطية ودخل القوى العاملة داخل حدود الدولة، ولأن الكفاءة في القطاع النفطي، الذي تشكل قواه البشرية جزءا صغيرا من إجمالي القوى البشرية لجميع القطاعات، هي ما يؤثر في إجمالي دخل الصادرات النفطية بصورة حصرية، فإن انعدام الكفاءة في القطاعات الأخرى لن يشكل أي «تهديد» على دخل القوى البشرية في القطاع النفطي أو بقية القطاعات المتعلقة بدخل الصادرات النفطية.
انعدام هذا «التهديد» صنع ثقافة تأسست وتأصلت خلال السبعين عاما الماضية، فالقائد في القوى البشرية، أيا كان موقعه، مادام خارج القطاع النفطي، لن يجد أي تهديد اقتصادي يمس راتبه الشهري وإن قصر في عمله، أو قصر من هم أدنى منه رتبة، أو حتى من هم أعلى منه، والسبب في ذلك يكمن وراء عدم اعتماد دخل الصادرات النفطية على أدائهم في العمل، أو ما يسمى «الكفاءة الإنتاجية». وإن كان عرضة لمواجهة تهديد– إداري– ناتج عن قائد مهني أعلى منه رتبة، وحريص على إكمال مهام إدارته على أكمل وجه، فهذه العقود صنعت تلك البيئة الطاردة لهؤلاء الذين قد يوجهون تهديدات إدارية لعديمي الكفاءة، والسبب هو تبدل الطباع المجتمعية وسبل الترابط بين فئات المجتمع. فما كان لتلك الثقافة إلا أن تولد «العلة» الاقتصادية الأساسية – في نطاق الاقتصاد الكلي– التي خلقت جميع مشكلات الاقتصاد الجزئي والسلوك التنظيمي. فالعلة جديرة بتبديل صفات العلاقة بين أطياف المجتمع، على الصعيد المهني الذي ينعكس اجتماعيا وثقافيا بصورة سلبية.
فعلى هذا الصعيد المهني والإداري، وتبعا لكون الكفاءة الإنتاجية لا تعد مطلبا للاستمرارية أو الارتقاء أو ثبات المنصب – من أعلى منصب في الحكومة حتى أدنى مسمى وظيفي في أي وزارة وما يتخللها من مناصب – إضافة إلى مناصب السلطة التشريعية، فقد أصبحت الموالاة والمصالح المشتركة هي المطلب الجديد الذي يستحوذ به المرء على التقدير، بل يحقق من خلاله فائدته الذاتية بشكل غريزي طالما لم تتعارض مأخوذاته مع القانون، الذي يستباح وتتبدل لوائحه متلونة مع احتضان هذه الثقافة عديمة المبدأ. ومع التعود والاعتياد شيئا فشيئا تعدى الأمر حدود الانتفاع الشخصي، وأصبح المرء مهيأ بطبيعة حاله للتقصير في عمله من باب التخاذل والتقاعس في إنهاء أعمال الأمة والالتفات لمصالحها، لهثا خلف هدف ثانوي يبتغي منه الحصول على امتنان طرف ثالث يضمن له تحقيق مصالح شخصية في قطاع أو مجال آخر.
ونظرا إلى أن هذه المعضلة تعد مسألة عودية، فما كان لهذه الثقافة الإدارية إلا أن تتكتل متمحورة حول نفسها، صانعة أجيالا وأطيافا مقصرة في أدائها المهني، متكيفة مع قناعة تقديم منافعها ومصالحها الذاتية على حساب الجميع بما فيها الوطن. وكلما كبر هذا التمحور الذي يغفل عن المبادئ ويهمش الأمانة المهنية ضاربا بها عرض الحائط انخفض أداء القطاعات في الدولة تبعا لذلك، وتضرر كل من يعمل داخل حدود الدولة من تردي الخدمات، بمن فيهم المتسببون في حبك هذه العقدة وهندسة هذا التمحور. حينها تعلو الأصوات صارخة بالتذمر، وتطول قائمة الشكاوى نتيجة ما يواجهه الأفراد من خدمات دون مستوى التوقع.
لا نجد انعدام هذا «التهديد» في فرنسا وبريطانيا، فكلما انخفضت الكفاءة الإنتاجية في شتى القطاعات، لا سيما التشريعية، انخفض الدخل القومي، وذلك بسبب اعتماد الاقتصاد الفرنسي والبريطاني على مصادر دخل متنوعة تصب من خلال تلك القطاعات، الأمر الذي بدوره يصنع تأثيرا شعبيا جديدا تجاه السياسة العامة من أجل إصلاح ما اختل توازنه.
وانعدام هذا «التهديد» في الكويت هو ما يجعلنا متقاعسين أمام الإصلاح، لا سيما إن تعارض مع مصالحنا الخاصة. فسياستنا، إما أن تكون ديمقراطية باقتصاد مستدام، أو مركزية باقتصاد ريعي!