نشر في
إن الأمم التي تنشد الاستقلال الاقتصادي لا تدرِك كمالَه بمجرد إحصاء ما تستهلك، ولا بالاكتفاء بمعرفة ما تستورد، بل بامتلاك علم راسخ بما تُنتج وتُصدِّر، وما يمكن أن تُوسِّع إنتاجه وتصديره مما لم تُحسِن توظيفَه بعد. فالمعرفة بالواردات تكشف مواطن النقص والارتهان، والمعرفة بالصادرات تُجلي مكامن القوة والمنافسة، أما إدراك الفرص التصديرية الكامنة فيوقظ الطاقات المعطلة، ويردم الفجوات بين الممكن والمتحقِّق، ويُهيئ فرصًا استثمارية ناضجة تسهم في ترسيخ الإنتاج وتعزيز الاستدامة. فالجمع بين هذه الأبعاد الثلاثة في «سجل وطني شامل» هو ما يمنح الدولة بصيرتها الإنتاجية الكاملة، فترى ذاتها على حقيقتها، لا كما تُخالها ظلال التهوين أو التهويل.
وليس هذا السجل المقصود به جداول تُملأ وتُركن، بل منظومة رقمية مُؤَتمتة، حيّة ونابضة، تتولاها يد إدارية حصيفة، وتشرف عليها عين فنية ساهرة لا تغفو؛ تنبض بياناتها فتضخ المعلومة إلى مراكز القرار، ليبقى الاقتصاد يقظًا، يستنير بالعلم، ويستقيم على المعرفة قبل أن يسير على الرأي.
القاعدة الثلاثية.. معمار السيادة الاقتصادية
يرتكز هذا السجل على قاعدة ثلاثية تتكامل أطرافها كما تتكامل الأركان في بناء واحد. فأولها «دفتر الواردات الوطنية»، وهو المرآة الأولى التي تجلي مواضع العجز الإنتاجي، وتظهر ما تعتمد عليه الدولة من الخارج في معاشها وصناعتها ومعارفها، فتبيّن مواطن النقص، ومجالات التوطين الإنتاجي الممكنة، إذا صدقت الإرادة واستُكملت الأدوات. وثانيها «دفتر الصادرات الوطنية»، وهو المرآة الثانية التي تعكس مواضع الفائض الإنتاجي، وما يعتمد عليه الخارج في حاجاته من نتاج الدولة في معاشه وصناعته ومعارفه، فيُظهر مواطن القوة التي ينبغي تعزيزها، ومجالات التميز التي تستحق الرعاية. وثالثها «دفتر الفرص التصديرية الإقليمية»، وهو المرآة الثالثة التي تكشف ما يحتاجه الإقليم من سلع وخدمات تستطيع الكويت أن تكون مصدرها إن أحسنت الإعداد وأتقنت التنظيم.
فإذا تألّفت هذه المرايا الثلاث، انبثق عنها «السجل الوطني لناتج الصادرات»؛ صورة جامعة توازن بين ما يُستورد وما يُصدّر وما يمكن تصديره، وترسم للدولة مشهدًا دقيقًا لميزانها الحق بين الأخذ والعطاء، بين الحاجة والقدرة؛ فتغدو هذه الصورة ميزان العقل الاقتصادي الذي تُقاس عليه سياسات الصناعة، وتُبنى وفقه قرارات التمويل والتحفيز. ومن خلاله تُراجع خطط التنمية ومؤشرات التوازن الاقتصادي؛ وبه يُعرف موضع الأمة من دورة الإنتاج، وبه تُقاس مسافتها بين الاتكال والاكتفاء.
التّساعية الكبرى.. صرح التآلف المؤسسي
يستلزم قيام هذا السجل منظومة مترابطة بين مؤسسات الدولة، تبنى على تآزرٍ لا تراسل؛ فيدار الشأن فيه بتكاملٍ رقميٍّ حيٍّ مُؤَتمتٍ، يربط المعلومة بمصدرها لحظة نشأتها، ويجعل القرار الاقتصادي مرتكزًا على حقائق موثّقة ببرهانٍ بيّن؛ إذ يصبح الرقم شهادة حيّة تُرى، وتتحول المعلومة من خبر متأخر إلى أداة للحكم الفوري، تُبنى عليها القرارات، وتهذّب بها السياسات؛ فيُستبدل بطء البيروقراطية بسرعة الوعي، ويترقّى السجل من ورقٍ يُرفع إلى عقلٍ يُبدع.
وتتوزع أدوار هذه المنظومة على تسعة أركان مؤسسية متكاملة، بما يجعل كل جهةٍ ركنًا لا غِنى عنه، فلا قيام للسجل دونها. فأهمها وفي مقدمتها «وزارة التجارة والصناعة» — أو الهيئة العامة لدعم ناتج الصادرات غير النفطية للقطاع الخاص، وذلك إن أُنشئت لتتولى هذا الدور—؛ إذ تعدّ القائد التنفيذي لمشروع السجل والمشرف على تسييره، تُصدر من خلاله التقارير الدورية الخاصة بناتج الصادرات، وتضع المعايير التي يُصنّف بها المنتج الوطني في مجالات السلع والخدمات؛ لتكون المرجع الأعلى في توحيد لغة الاقتصاد الوطني وضبط مصطلحاته، ولتعيد إلى الإدارة الاقتصادية توازنها بين الرؤية والسياسة، فتجمع بين دقة الإحصاء وحكمة التوجيه؛ فلا تبقى الأرقام مبعثرة في دفاتر الإدارات، بل تنتظم في منظومة واحدة تجري فيها المعلومة كما يسري النبض في شرايين الدولة.
أما «الإدارة المركزية للإحصاء» فتتولى مهمة التحليل والتقويم، توحّد المنهجيات بين الوزارات، وتُقارن بين القطاعات، وتقدم للسجل مؤشرات دقيقة عن مساهمة كل قطاع في الناتج المحلي الإجمالي، لتكون صوت العقل الذي ينقّي الأرقام من شوائب التقدير، ويمنحها دلالتها الحقيقية في لغة الاقتصاد. وتأتي «الهيئة العامة للصناعة» لتغذي السجل ببيانات المصانع المحلية وطاقاتها الإنتاجية، وتحدد نسب الإحلال الممكنة للمنتجات المستوردة؛ فتصبح هي الذاكرة الصناعية للوطن، تحفظ ما ينتجه وتبين ما يمكن له أن ينتجه. وتضطلع «الإدارة العامة للجمارك» بدور الشريان الرقمي؛ فهي المعبر الذي تمر منه كل السلع، تزود السجل بحركة الصادرات والواردات بصورة مؤَتمتة، وتضبط دقتها في لحظة العبور، فلا تُترك المعلومة رهينة الزمن ولا رهينة مجال التقدير. وأما «وزارة الخارجية»، بسفاراتها وملحقياتها التجارية، فهي البصر الذي يطل على الخارج، تمد السجل ببيانات الطلب في الأسواق الإقليمية، ليُدرج في قسم الفرص التصديرية ما يليق بالكويت من مجالات لتوسيع صادراتها ومد نفوذها التجاري.
ويكتمل البناء المؤسسي لهذا السجل بتضافر أذرعه التنفيذية والتمويلية، وتكاملها مع شركائها من القطاع الخاص. فتكون «الصناديق التنموية» و«الصناديق السيادية» الرافعةَ الماليةَ لمشروع السجل، تموّل القطاعات التي يحدّدها بوصفها فرصًا تصديريةً أو إحلاليةً ذات جدوى؛ فتربط المعرفة برأس المال في دورة إنتاجية متكاملة. أما «القطاع الخاص» و«غرفة التجارة والصناعة»، فيتضافران أداءً وتكاملًا ضمن هذا البناء؛ إذ يزودان السجل بما لديهما من بيانات عن المشاريع القائمة والمستقبلية، ويستفيدان في المقابل من المعلومات التي يتيحها السجل لتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات الأكثر قابلية للإحلال أو التصدير؛ فتتحد المصلحتان، الخاصة والعامة. وبهذا التكامل المؤسسي والاقتصادي، تغدو المعرفة استثمارًا، وتغدو الفكرة مصنعًا يصدّر.
وعند هذا الحد من التكامل، يغدو السجل عقلًا اقتصاديًا وطنيًا يقظ الحسّ، لا يغيب عنه رقم ولا تفوته فرصة؛ يلمّ شتات البيانات ويعيد سبكها في لوحة واحدة تُظهر اتجاهات الدولة في التجارة والإنتاج، وتكشف لها معالم الطريق إلى الريادة، بعد زمن من الاعتماد على الخارج.
الغاية الإنتاجية.. من البيان إلى الصناعة
الغاية من هذا السجل، اقتصاديًا، ليست أن يُحفظ فيه ما مضى، بل أن يُستولد منه ما يُقبل؛ فليس هو أرشيفًا بقدر ما هو أداة تُصنع بها ملامح المستقبل. فمن خلاله تبصر الدولة حركة ناتج الصادرات لا على أنها جداول مالية فحسب، بل على أنها مقياس دقيق لطاقتها الإنتاجية ومكانتها بين الأمم؛ إذ يحوّل الرؤية من حساب الدخل إلى فهم القدرة، ومن تتبع الأرقام إلى استيعاب الاتجاه.
فالسجل لا يكتفي بأن يحصي كميات أو يدون مقادير، بل يحلل كل سلعة وخدمة من حيث قيمتها المضافة وعمقها الصناعي واتساع امتدادها الإقليمي؛ فيفرّق بين تصدير قوامه تجميع يعتمد على الخارج في بعض مكوناته، وتصدير أصيل ينشأ من إنتاج محلي مكتمل في مادته وصناعته. وهنا تدرك الدولة أي القطاعات تسهم في بناء الناتج الحقيقي، وأيها لا يعدو أن يكون معبرًا للبضائع تمر فيه السلع دون أن تترك أثرًا في جسد الاقتصاد الوطني.
ومن الجانب الفني، يمكّن هذا السجل صانع القرار من الربط بين حلقات الصناعة المحلية وسلاسل التوريد العالمية؛ فيتبين موضع المنتج الكويتي في خريطة التجارة، ويقف على العوائق التي تحد من انتشاره، أكانت فنية تتعلق بالمواصفات والمعايير، أم مالية ترتبط بالتكلفة والتمويل، أم لوجستية تمس النقل والتوزيع.
وأما استراتيجيًا، فإن السجل يغدو بوصلة الأمن الاقتصادي الوطني؛ يُظهر بوضوح حجم الاعتماد على الخارج في السلع الحساسة، ويكشف في المقابل مواضع القوة الكامنة التي يمكن توجيه الاستثمارات نحوها لتحقيق الاكتفاء بل والتفوق. وبهذا يتحول من سجل للمعلومات إلى أداة للعقل الاستثماري الوطني؛ توجه رأس المال إلى المواضع التي تقيم التوازن للدولة في معادلة السوق العالمية، وتجعل الاقتصاد يمضي واثق الخطى بين حاجته الذاتية وقدرته التصديرية.
العائد الوطني.. ثمرة التكامل في البناء المؤسسي
بإنشاء «السجل الوطني لناتج الصادرات» تدخل الكويت طورًا جديدًا من أطوار نضجها الاقتصادي؛ إذ تُفتح أمامها صفحة الإفصاح الإنتاجي في أبهى معانيها، فتصبح البيانات التي كانت بالأمس حبيسة الأدراج ملكًا عامًا يُستثمر في صناعة القرار. وتتحول الوزارات والهيئات من جزر متباعدة في بحر الإدارة إلى جسد مؤسسي واحد؛ فيغدو التشتت الذي كان يعطّل القرار تناغمًا يسرّع الخطى نحو الإصلاح، ويستبدل الانسجام بالازدواج، والجهد المنظم بالمبعثر.
وسيُمكّن هذا السجل الدولة من أن تصدر تقارير دورية دقيقة، تفصّل ناتج الصادرات بحسب القطاعات والأنشطة، مبينة ما يضيفه كل قطاع إلى الناتج المحلي الإجمالي، وكيف يتطور حضوره في الأسواق الإقليمية والعالمية. كما سيتيح للدولة أن ترصد حركة ناتج التصدير على مستوى المحافظات والمناطق الصناعية، فتوجه البنية التحتية والاستثمارات وفق ميزان من العدالة والكفاءة، فلا يطغى قطاع على آخر، ولا تُهمل طاقة إنتاجية يمكن أن تكون لبنة في بناء التنوع الاقتصادي.
وما يتعدى أثره الداخل ليبلغ الآفاق، فإن هذا السجل سيعيد رسم صورة الكويت في ضمير العالم؛ لا كدولة ريعية تُنفق مما يرد إليها، بل كدولة منتجة تُنفق مما تصنعه بيديها. فكل تقرير يصدر عنه سيكون شهادة رسمية على تحول واقعي في مسار الاقتصاد الوطني، وكل رقم يُدوَّن في صفحاته سيكون رمزًا لعمل حقيقي في مصنع نابض بالحياة، أو خدمة تُقدَّم بعقول وطنية مؤمنة بأن الازدهار لا يُستورد، بل يُصنع.
القيمة الرمزية والفكرية.. من مشروع إداري إلى مفهوم سيادي
إن «السجل الوطني لناتج الصادرات» مفهومٌ سياديٌّ راسخٌ في أصله؛ يوقظ في الدولة وعيها بذاتها بوصفها منتجةً لا متلقية، فاعلة لا منفعلة، ويعلّم أبناءها أن قيمة الأوطان لا تُقاس بما تُنفقه من وارد، بل بما تقدمه من منتج نافع. إنه ذاكرة العمل لا ذاكرة المال، وسجل الكفاءة لا سجل المعاملات، ومرآة القدرة التي تعكس وجه الدولة كما هو في حقيقته، لا كما تصوره مظاهر الرفاه الزائف. وهو أيضًا دفتر التاريخ الاقتصادي الذي سيقرأه الأبناء بعد عقود، فيرون فيه كيف انتقلت الكويت من طور الاتكال إلى طور الاكتفاء، ومن مرافئ الانتظار إلى آفاق الإبحار.
فإذا كان «دفتر الواردات الوطنية» يفصح عما يثقِل كاهل الاقتصاد من عجز واعتماد، و«دفتر الصادرات الوطنية» يشير إلى مكامن القوة والاكتفاء، و«دفتر الفرص التصديرية الإقليمية» يبرز ما يمكن بلوغه من إمكان وقدرة؛ فإن «السجل الوطني لناتج الصادرات» يجمع بين الصور الثلاث، فيصوغ منها خريطة السيادة الاقتصادية؛ طريقًا واضحَ المعالمِ، نحو الاكتفاء والعزة، لا يُرسم بالحماسة العابرة، بل يُعبّد بخطًى محسوبة، يخطها العقل، وتباركها الإرادة، ويوثّقها الرقم الصادق، تمامًا كما يوثّق التاريخ لحظة الانتقال من التبعية إلى التمكين.
وهكذا يُكتب للتاريخ فصلٌ جديد في وعي الأمة بذاتها؛ عنوانُه النهوض والإرادة، وسطرُه الدعاء الصادق. فاللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا.