نشرت في
2017/06/12 و تم طلب نسخة الطباعة في
2024/10/14
نشر في
[القبس]
مصطلحان بُخس حقهما بمرورهما على مسامع المسؤولين في الدولة، الذين اعتاد أغلبهم افتراض فهمهم معاني المصطلحات الاقتصادية من باب الخبرة وحسب. صانعون منه قرارات كفيلة بأن تمرجح اقتصاد البلاد يمنة ويسرة. فيا للريبة، وقد بات جليا للعيان افتراض «الاستمرارية» كمقصد للاستدامة وتعريف العجز الاكتواري على أنه «عجز محاسبي»! إن إيجاد تعريف هذين المصطلحين أمر في غاية السهولة، وفي الحقيقة لم أضع مفهومهما أو تفسيرهما الآن بقصد تثبيته في أذهان كل المعنيين، وقد أنهكتني المحاولات السابقة مع فئة من الباذلين بجهد وجد، وفي كل محاولة منهن كان الفشل خير حليف لنا. ولكن! سأعاود الكرة اليوم؛ آملا بذلك أن يصيب كلامي هدفه، ويرتكز، ولو في ذهن قيادي واحد، لعلي أؤجر في هذا الشهر الفضيل.
إن الاستدامة الاقتصادية والميزان الاكتواري يرتبطان ببعضهما ارتباطا تكامليا، بل وتوجد بينهما علاقة حميمة تماما كعلاقة «الهريس» بـ«الدارسين»، يكمل بعضهما الآخر. فإن واجه ميزاننا الاكتواري عجزاً فهذا دليل على سيرنا في طريق معاكس للاستدامة. أما إن كان هناك فائض اكتواري فهذا يعني أن اقتصادنا يسير، وبلا شك، موافقا لاتجاه تلك الاستدامة. ولكن، يبقى التساؤل حول ما يجب أخذه في الاعتبار عند حساب الميزان: أيعتبر كل من الإيرادات النفطية أو الطاقة معطى يمكننا إدخاله كقيمة حالية لحساب القيمة المستقبلية في الميزان الاكتواري؟ أم «نخلط الحابل بالنابل»، ثم نتروى لاستنتاج ما قد تؤول إليه الأمور؟ هل لنا أن نمتدح «هريس» منزلك افتراضا بأن ما حسّن من طعمه هو ما ذر فوقه من «دارسين»، في حين أنت في حقيقة الأمر قمت بتقديمه مزينا بـ«بيض مسلوق»؟!
فاعتبارنا للإيرادات التي تصب في خزينة الدولة وهي في أصلها عائدة من مصدر بيعي لموارد قد تنضب مستقبلا أو يؤثر استغلالها سلبا في الأجيال القادمة، لهو أمر منافٍ بالكلية لمفهوم الاستدامة. فالاستدامة تُخلق من خلال تحقيق الاستمرارية ليس لفترة وجيزة وحسب، بل مدى الحياة تزامنا مع الارتفاع في معدل العوائد وارتفاع أقل منه لمعدل التكاليف. بذلك الأمر نصل إلى زيادة مستمرة ومستدامة للربح السنوي، صانعين بذلك فائضا اكتواريا يا سادة!
أما الإيرادات النفطية فقد تحقق فائضا محاسبيا على مر السنين، الذي به قد نحصل على فائض اكتواري «مؤقت» عند احتساب القيم المستقبلية. فهل يعد هذا الفائض فائضا اكتواريا حقيقيا، كالذي تم شرحه؟ ماذا لو كانت هناك تكلفة للفرص البديلة تعادل قيمة مستقبلية أعلى مما تم حسابه، ولكنها لم تكتشف إلا بعد انتهاء الاحتياطيات النفطية؟ ماذا لو زادت ندرة النفط بعد مئة عام؛ لتصبح قيمة البرميل ٨٠٠ دولار أميركي، تزامنا مع ارتفاع قيمة الدولار، وماذا لو زادت القيمة المستقبلية للتكاليف الإصلاحية التي سترمم ما آلت إليه الأمور جراء تلك الاعتبارات الخاطئة؟! أين الاستدامة الاقتصادية والميزان الاكتواري الصحيحان؟! وما الذكرى التي ستتركها لأجيالك القادمة؟
إن قيمة ما نفقده بالتتابع تجعلنا بحاجة ماسة إلى وجود أذهان تبصر لتدرك. ولكن الريعية الاقتصادية التي نشهدها اليوم أشبه بالغمامة التي تقض الرؤية عن تلك الإبصار! لتتسابق بدورها لما يُستفاد منه الآن مهمشة بذلك الأساسيات التي درّست تهميشا بيروقراطيا، مسببة فسادا يتباهى به المسؤولون بمصطلحي الاستدامة والعجز الاكتواري من دون أدنى علم بـ«الطبخة»، وبأن «الهريس» لا يكتمل بغير «الدارسين»!