نشر في
ان «الكوكبة» المعنية بالتأثير في الادارة الداخلية للدولة، بمفهومها الذي تقدم شرحه في المحاور السابقة، هي حلقة الوصل التي تربط بين دخل الصادرات النفطية ودخل القوى العاملة داخل حدود الدولة. وكون الكفاءة في القطاع النفطي، الذي تشكل قواه البشرية جزءا صغيراً من اجمالي القوى البشرية لجميع القطاعات، هي ما يؤثر في اجمالي دخل الصادرات النفطية بصورة حصرية، فإن انعدام الكفاءة في القطاعات الاخرى لن يشكل اي «تهديد» على دخل القوى البشرية في القطاع النفطي او بقية القطاعات المتعلقة بدخل الصادرات النفطية.
انعدام هذا «التهديد» صنع ثقافة تأسست وتأصلت خلال السبعين عاما الماضية، منذ بوادر اكتشاف النفط. فالقيادي في القوى البشرية، ايا كان موقعه، طالما كان خارج القطاع النفطي، لن يجد اي تهديد اقتصادي يمس راتبه الشهري وان قصر في عمله، او قصر من هم ادنى منه رتبة في عملهم، او حتى من هم اعلى منه. والسبب في ذلك يكمن وراء عدم اعتماد دخل الصادرات النفطية على ادائهم في العمل، او ما يسمى بالكفاءة الانتاجية. وان كان عرضة لان يواجه تهديدا - اداريا - ناتجا عن قائد مهني اعلى منه رتبة، وحريص على اكمال مهام ادارته على اكمل وجه، فهذه العقود صنعت تلك البيئة الطاردة لهؤلاء الذين قد يوجهون تهديدات ادارية لعديمي الكفاءة، والسبب هو تبدل الطباع المجتمعية وسبل الترابط بين فئات المجتمع. فما كان لتلك الثقافة الا ان تولد «العلة» الاقتصادية الاساسية - في نطاق الاقتصاد الكلي - التي خلقت جميع مشكلات الاقتصاد الجزئي سالفة الذكر. فالعلة (عدم اعتماد ريع الصادرات النفطية على الكفاءة الانتاجية) جديرة بتبديل صفات العلاقة بين اطياف المجتمع، على الصعيد المهني الذي ينعكس اجتماعيا وثقافيا بصورة سلبية.
على هذا الصعيد المهني والاداري، وتبعا لكون الكفاءة الانتاجية لا تعد مطلبا للاستمرارية او الارتقاء او ثبات المنصب من اعلى منصب في «الكوكبة» سالفة الذكر الى منصب رئاسة مجلس الوزراء وحتى ادنى مسمى وظيفي في اي وزارة وما يتخللها من مناصب، فقد اصبحت الموالاة والمصالح المشتركة هي المطلب الجديد الذي يستحوذ به المرء على التقدير والموالاة، بل ويحقق من خلاله فائدته الذاتية بشكل غريزي طالما لم تتعارض مأخوذاته مع القانون، الذي يستباح وتتبدل لوائحه متلونة مع احتضان هذه الثقافة عديمة المبدأ. ومع التعود والاعتياد، شيئا فشيئا تعدى الامر حدود الانتفاع الشخصي، واصبح المرء مهيأ بطبيعة حاله للتقصير في عمله من باب التخاذل والتقاعس في انهاء اعمال الامة والالتفات لمصالحها، لهثا خلف هدف ثانوي يبتغي منه الحصول على امتنان طرف ثالث يضمن له تحقيق مصالح شخصية في قطاع او مجال اخر. ونظرا الى ان هذه المعضلة تعد مسألة عودية، فما كان لهذه الثقافة الادارية الا ان تتكتل متمحورة حول نفسها، صانعة اجيالا واطيافا مقصرة في ادائها المهني، متكيفة مع قناعة تقديم منافعها ومصالحها الذاتية على حساب الجميع بما فيها الوطن. وكلما كبر هذا التمحور الذي يغفل عن المبادئ ويهمش الامانة المهنية ضاربا باياها عرض الحائط انخفض اداء القطاعات في الدولة تبعا لذلك، وتضرر كل من يعمل داخل حدود الدولة من تردي الخدمات، بمن فيهم المتسببون في حبك هذه العقدة وهندسة هذا التمحور. حينها تعلو الاصوات صارخة بالتذمر، وتطول قائمة الشكاوى نتيجة ما يواجهه الافراد من خدمات دون مستوى المتوقع.
تلك العلة لم تقصر في القيام بواجبها على اكمل وجه، اذ انها اسست هرما اداريا مبنيا على اسس غير صحية في مختلف النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والدينية. فيما تفاوتت نسبة الفائدة والانتفاع الشخصية ما بين شخص واخر بناء على موقع الشخص في هذا الهرم، فكلما ارتفع موقعه فيه ازدادت قدرته في الحصول على اكبر قدر ممكن مما يتم تجزئته من ريع الصادرات النفطية، التي تصب في اعلى الهرم. والجدير بالذكر ان ثبات هذا الهرم وقوة متانته يعتمد اعتمادا كليا على من هم في المواقع الدنيا منه، واي خلخلة او زعزعة تجاه ثقتهم بمن هم فوقهم يشكل قوة فتاكة قد تتسبب في هدم هذا الهرم الاداري.
ووفقا لكل هذه التداعيات، نتجت الاستراتيجية المتبعة في وقتنا الحالي، التي يدار فيها هذا الهرم وفقا لما تم التعارف عليه، وبما تهدف اليه من تفرقة وتفكيك اي اتحاد لمن هم ادنى مرتبة، والذين يضعون تركيزهم في حصر سلبيات من يعلونهم مرتبة او اكثر. وتطبيق تلك الاستراتيجية يتطلب مناقضة الرأي السديد برأي اخر يتوازى معه، من خلال تعيين قيادي راضخ. وهذا الرأي الاخر قد لا يكون متاحاً ومهيأ في نفس المرتبة في وقت الحاجة اليه، وبناء على هذه الظروف يتم استقطاب هذا القيادي بمعايير قانونية، لكنها غير مقبولة في قاموس الاعراف والاخلاق العامة، نظرا لقصور التشريع.