عمومية قانون الصندوق الوطني.. بين فضيلة المرونة وآفة الالتواء
عبدالله السلوم
طباعة
تكبير الخط
تصغير الخط
نشر في 24 سبتمبر 2025 الساعة 08:26 مساء
نشر في
حين أطلّ القانون رقم 98 في ربيع عام 2013، معلناً ولادة الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، برأسمال ضخم يناهز ملياري دينار، ارتفعت في الأفق آنذاك آمال عريضة، وتهامس الناس بأن صفحة جديدة على وشك أن تُفتح في سجل الاقتصاد الكويتي، صفحة تَعِدُ بتحريره من قيد الاعتماد الأُحادي على النفط، ذلك الريع الذي طالما كبّل الطموحات وضيّق آفاق التنويع. بدا وكأن الصندوق سيكون الرافعة المنتظرة، التي تنهض بالقطاع الخاص من دائرة الاتكالية إلى ميدان الإنتاجية، والجسر الذي يعبر بالاقتصاد من ضفة الريع المرهون بالأسواق الخارجية إلى ضفة التعدد والتوازن والاستقرار. غير أنّ رياح التطبيق لم تأت كما تشتهي السفن، إذ لم يمض وقت طويل حتى انكشفت النصوص الفضفاضة للقانون، التي صيغت لتكون مظلة جامعة ومرنة، انقلبت إلى ثغرات متشعبة قابلة للتأويل، تُفتح منها أبواب متناقضة، وتُسلك عبرها مسالك لا تنسجم مع غايات المشرّع ولا مع رجاء المجتمع. ولكن، قال تعالى: «فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (النساء: 19).
فالتأمل العميق في المادة الثالثة من القانون، بما تنص عليه من غاية نبيلة، تتمثل في تنمية الاقتصاد الوطني، وخلق فرص العمل، وتنويع مصادر الدخل لتخفيف الأعباء عن الموازنة العامة للدولة، يكشف عن مقصد رفيع وهدف عظيم. غير أنّ هذه المادة، ومعها المادة الحادية عشرة ذات الطابع الاسترشادي، بما شابهما من إطلاق غير مقيَّد، قد صارتا كالسراج الذي يُلقي ضوءه على أكثر من وجه، فتُفسَّران في كل حقبة وفق ما تميل إليه الإدارة القائمة: فمرّة يُجعل التركيز على الوظائف وكأنه غاية قائمة بذاتها لا ثمرة طبيعية للنمو، ومرّة يُنزَّل التوظيف منزلة العرض لا الشرط، وثالثة يُستبدل هدف فتح أبواب تنمية ناتج الصادرات بزجّ المشاريع في دائرة المناقصات الحكومية.
القانون الفضفاض: من أداة تمكين إلى سلاح ارتجال
وهكذا، غدت النصوص التي أرادها المشرّع مفتاحاً للتجديد، ميداناً عُرضت فيه استراتيجيات نقيّة السريرة، صادقة النوايا، غير أنّها ما لبثت أن انكشفت في بعض الاحيان مثقلة بضعف الكفاءة وضيق الخبرة، فعجزت أن تضمن لتلك المساعي نصيباً في بلوغ الغايات المرسومة في النص. ثم ما لبث هذا العجز أن تراكم وتحوّل، فإذا بالمقصد الشريف ينقلب وسيلة للمراوغات الإدارية من البعض، وأداة تتلون بألوان التوجهات السياسية، حتى بدا الصندوق كمن خُلق ليطارد ظله، يلهث خلفه عبثاً، فلا هو أدرك حقيقته، ولا هو اقترب من كنه رسالته.
وفي ذلك مفارقة مُرّة: فالإخلاص حين ينفرد بلا خبرة يصبح كالغرس الطيب في أرض سبخة، ينمو بضعف حتى يذوي قبل أن يُثمر. أمّا الخبرة إذا تجردت من الإخلاص، فهي كالحاذق الذي يشيد بنياناً على رمال متحركة، يتقن فنون الشكل، لكنه يهدم المعنى، فيُضلّ الطريق ويُضيّع المقصد. وبين هذين الحدّين ظل الصندوق يتأرجح، فلا نجا بصدق النية، ولا استقوى بتمام الحنكة، وإنما ارتكس في منطقة رمادية عرجاء، يتناوبها قصور الطيبين وربما مكائد الماكرين. ولئن قيل في الحكمة إن «الكلام إذا عمّ غمّ»، فإن عمومية القانون كانت السبب في ذلك التشظي، فحين لا تُضبط العمومية بالإسهاب والتفصيل، تتحول من مرونة إلى غموض، ومن أداة تمكين إلى سلاح ارتجال.
«المُخلِّص» الحق: بين مصارع الرعاية والإهمال
ولكي تُرى الصورة بصفائها لا بعُتمة أجزائها، وجب أن يُدرَج الصندوق في الإطار الأوسع للاقتصاد الوطني. فهذا الاقتصاد، في هيكله الراهن، يقوم على قطبين لا ثالث لهما: قطب أول هو الدولة بما تملكه من جهاز حكومي، يستمد جلّ إيراداته من تصدير النفط، وقطب ثان هو القطاع الخاص، الذي لا يملك استقلالاً حقيقياً عن الدولة، حيث يتشعّب إلى ثلاثة فروع: فرع يقتات على إنفاق موظفي القطبين، وفرع يقوم على الإنفاق الحكومي الرأسمالي والخدمي، وفرع ثالث يتكئ على ناتج صادرات السلع والخدمات والخبرات، وهو الأضأل حجماً والأوهى وزناً. غير أنّ هذا الفرع الأخير، هو «المُخلِّص» الحق، بعد الله، وهو الذابّ عن الأمة في مستقبلها، وهو الذي يحقّق لروح نص قانون الصندوق غاياته الكبرى. وهنا يكمن بيت الداء: فما دام القطاع الخاص لا يملك استقلالاً حقيقياً عن الدولة، فإن أي مسعى لا يوسّع قاعدة ذلك «المُخلِّص» سيظل قاصراً عن إحداث النقلة النوعية المنشودة.
وقد كان الصندوق الوطني مؤمَّلاً أن يكون الجسر، الذي يُفضي إلى هذا التحول المصيري، فإذا به يرسّخ ممارسات تعيد إنتاج التبعية ذاتها، وتزيد من تضخم الفروع الاتكالية في القطاع الخاص. وما فاقم المعضلة أنّ الصندوق، في مسيرته، لم يُثمر إلا مشاريع استهلاكية أو متعثّرة، إلا ما رحم ربي من محاولات نادرة لم تُغيّر في المشهد كثيراً. وهناك يطلّ وجه البيروقراطية حين تعلو على البصيرة، وحين يُترك النص القانوني فضفاضاً، فيتحوّل الصندوق من أداة إصلاح إلى ميدان للتجارب المتناقضة، يراوح في مكانه دون أن يخطو بالنقلة الاستراتيجية الموعودة. ولئن حاولت بعض الإدارات إدخال المشاريع في ضمن استراتيجيات صادقة، فإن تلك المحاولات لا تعدو كونها دوراناً في الفلك ذاته. فالقانون نُصّ على تنويع مصادر الدخل، لا على إعادة تدويرها في دائرة مغلقة. فما دامت المشاريع محصورة في السوق الداخلي، وحين تُحسب فرص العمل كأرقام لا كثمار إنتاجية، فإن المسافة لا تزال شاسعة بين ما أراده النص وما آل إليه التطبيق.
ثلاثية التوصية: من الثغرة إلى سبيل التمكين
لقد علّمتنا التجارب أن النصوص إذا لم تُرفَد بآليات دقيقة، انقلبت من جسر يُرتجى به الإصلاح إلى معبر للالتفاف والمراوغة. ومن هنا، فإن التوصية الأولى، التي لا غنى عنها بعد الله، أن يُعاد النظر في نص القانون بإسهاب اقتصادي مُفصَّل، يضع معايير واضحة لا تحتمل التأويل: كيف تُقاس القيمة المضافة؟ أبعِبء الصادرات يُرفع، أم بخفض الواردات يُقاس، أم بكليهما معاً؟ وما النسبة العادلة للتمويل في ضوء ذلك؟ غير أنّ الأمر لا يقف عند هذه الثنائيات وحدها، بل يمتد ليشمل أثر المشروع في زيادة الناتج المحلي الإجمالي في شقيه المستدامين: ناتج الصادرات بما يحمله من توسع وانفتاح، وناتج الاستثمار بما يرفده من رسوخ داخلي وبنية إنتاجية. وإلى جانب ذلك، ما يُحدثه المشروع من ترابط في سلاسل القيمة، التي تشدّ أوصال القطاعات بعضها إلى بعض، وما يرفده من ابتكار ومعرفة تُغني الاقتصاد الوطني وتُدخله إلى رحاب العصر، ثم ما يتركه من بصمة على الاستدامة، لتكون مشاريعه غراساً تُثمر اليوم، وتُظلّل الغد.
أما التوصية الثانية، فهي الإسهاب المؤسسي والرقابي، لتُحكم الصلة بين الصندوق وبين موارد أجهزة الدولة وهيئاتها، كالهيئة العامة للصناعة مثلاً، بما يضمن سلاسة آلية منح الأراضي الصناعية للمشاريع، التي استوفت الشروط المرسومة في الإسهاب الاقتصادي. وكذلك يُعاد تعريف العلاقة بين الصندوق والجهات الرقابية، على قاعدة تَفصل بين الرقابة التي تكشف الانحراف وتقومه، وبين العرقلة التي تُكبّل الأيدي وتُطفئ جذوة المبادرة. فالرقابة الحقّة ليست خصماً يُعطّل المسار، وإنما هي عين ساهرة تتيقّن أن الصندوق يسير في الطريق الذي رُسم له، لا في منعطفات تُبعده عن مقصده.
وأما التوصية الثالثة، فهي الإسهاب الإداري والتنظيمي، بحيث تُرسَم الآليات واللوائح التفصيلية لاستقطاب الكفاءات وصونها وتمكينها، لا عبر الرواتب وحدها، بل من خلال أنماط عمل مرنة وحديثة، تفتح لهم أبواب المشاركة من غير أن تُغلق عليهم آفاقهم الأصلية.
وإذا أمعنّا النظر في هذه التوصيات، وجدناها كالأعضاء في الجسد الواحد، يُساند بعضها بعضاً، لتجتمع في نهاية المطاف عند خدمة الإسهاب الاقتصادي، فهو الركيزة التي إن استقامت استقام ما عداها. ومن هذا المنطلق، يمكن لتلك العمومية، التي بدت في ظاهرها ثغرة، أن تتحول، إن أُحسن توجيهها، إلى تجربة واعية، والتجربة إلى خبرة راسخة، والخبرة إلى إصلاح مؤسَّس على البصيرة. وهكذا يغدو الباب الذي وُلد للمراوغة، سبيلاً ممكِّناً، وطريقاً يفضي إلى تمكين الدولة من مقاصدها، والاقتصاد من خلاصه، والمجتمع من غده.
الصندوق الوطني: فليكن دفّة واعية.. لا شراعاً مترهّلاً
إن هذه القراءة، بما حملته من نقد وتحليل، لا تُراد غايةً في ذاتها، ولا تنشد أن تكون خاتمة القول، بل هي جرسٌ يُدقّ في صميم الوعي، دعوة للتفكر وإعمال البصيرة. لعلها توقظ في النفوس حقيقةً طالما غُيّبت أو أُجّلت: أن القانون حين يُترك فضفاضاً، بلا إسهاب ضابط ولا معايير محكمة، ينقلب من وسيلة للنهوض إلى حمل ثقيل على كاهل التنمية، يُرهقها أكثر مما ينهض بها، ويُحوِّل الطموح المشروع إلى ورق جامد يعلوه الغبار. أما حين يُعاد صياغته بوعي عميق، وحكمة نافذة، وإرادة صادقة، فإنه يتحول إلى رافعة جبّارة، قادرة على أن تُخرج اقتصاد الكويت من أسر الاعتماد على ريع آيل إلى النضوب، إلى رحاب اقتصاد يقوم على عرق أبنائه، وإنتاجية عقولهم وسواعدهم، وصادرات تحمل اسم الوطن إلى العالم لا بوصفه بائع موارد، بل صانع قيمة، ومُنتج معرفة.
وذلك، في خالص معناه، هو الأمل الذي يجب أن نتشبث به، أملٌ يُترجم بالعزيمة الصادقة لا بالشعارات، وبالرؤية النافذة لا بالارتجال، وببصيرة ثابتة لا تتلون ولا تنحرف. فإذا أدركنا ذلك، انفتح لنا باب الإصلاح على مصراعيه، وإذا أعرضنا عنه، بقينا ندور في حلقة مفرغة، نستهلك مواردنا حتى تُستنزف، ونؤجل إصلاحنا حتى يسبقنا الركب. فليكن قانون الصندوق دفّةً واعية، لا شراعاً مترهلاً، وليكن لنا به إصلاحٌ يمكّن الكويت من أن تتجاوز زمن الريع، وتدرك زمن الإنتاج، وتكتب لأبنائها مستقبلاً يليق بتاريخها ومكانتها بين الأمم.
فاللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً..