نشر في
بين السواد والبياض يفصل خيط رفيع، تماما كالخيط الذي يفصل بين الريعية والاستدامة. فباختلاف مفاهيم آليات العمل والفكر الإنتاجي فيما بينهما، فإن الأول يقوم باعتماده التام على إنتاجية الأرض ومواردها الطبيعية، بينما يقوم الاقتصاد الإنتاجي على ما ينتجه الإنسان فوق هذه الأرض. ولعل التباين بين الاثنين واضح وجلي، فالموارد الطبيعية تعد ثروات مهددة بالنفاد مع مرور الوقت والاستهلاك غير المقنن. بينما عقل الإنسان وإنتاجيته ليست كذلك؛ فالاتكالية والاعتماد على الريع معضلة شائكة تقلل من إنتاجية العمل وبالتالي ترسخ ثقافة مجتمعية ذات قيم سلبية، يتوزع فيها المجتمع في هرم ذي شرائح متباينة، تقل الفرص أمام الدنيا منها وتزخر العليا منها بالكثير استنادا إلى البيروقراطية المقيتة.
وتتذيل الدول العربية قائمة العالم بأسره في رجعيتها، بذهنها الاقتصادي الريعي مستغلة الموارد الطبيعية ومهدرة من دونها العقول البشرية، إذ تعتمد على الإنتاج الريعي اعتمادا يتركها في الصفوف الأخيرة مقارنة بدول أخرى لا تملك من تلك الخيرات شيئا، وبالرغم من ذلك أحرزت تقدما اقتصاديا أفضل من الدول الريعية. وأهم ما تتجلى فيه ملامح اقتصاد وسياسة دول الريع هو ما تستند إليه في استراتيجياتها وآليات عملها من جانب القيم والمبادئ التي تشكل أسلوب الوصول إلى الأهداف والغايات. ففي مساحة الدولة الريعية التي لا تبدي أي اهتمام أو احترام للقيمة الإنتاجية فإن كل من يتقن اقتناص الفرص لصالحه الشخصي تكون له الزعامة في قيادة الموقف. وهذا الأمر كفيل بأن يعكر أفق كل عزيمة بغمامة سوداء، محبطا ومثبطا إياها بما تبثه من تحقير لقيمة الإنتاج وعدم تبني القيم السليمة، والانحراف عن سلك النهج الصحيح الذي يستوجب تقدير ذوي الكفاءات وأهل الخبرة والعلم.
وتجيء سلسلة المقالات هذه لتسليط الضوء على الاقتصاد الكويتي بشكل خاص، هادفين فيها إلى أن نضع نصب أعيننا مسألة التصدي لقلة الإدراك الحقيقي والاستدراك الدقيق لمفهوم الرؤية الاقتصادية، المتمثل على هيئة حلول جذرية تستهدف قضايا الاقتصاد الكلي للدولة، بالسعي لتبيان وتوضيح كيف يمتد الأفق بعيدا في رسمه ووسمه عما صوره لنا كل من كان قد أدلى بنصيحته فيما يتعلق بالشأن الاقتصادي الكويتي. آملين أن تحقق رؤية «كويت الاستدامة» المرجو منها، ويكون لها نصيب في رفع سقف الوعي المجتمعي في الشأن الاقتصادي؛ وعي يمكنه من أن يبصر ويدرك تبعات الأمور ومجرياتها، فيبني نظرته الخاصة ورأيه الناقد عن دراية تامة.
هذا ولا يمكننا أن نتخذ إصلاحات قضايا الاقتصاد الجزئي والسلوك التنظيمي وسيلة لغاية تحويل الاقتصاد الكويتي إلى اقتصاد مستدام، بل عليه أن يكون نتيجة لإصلاحات داخل نطاق الاقتصاد الكلي، التي بدورها تنقل الاقتصاد الكويتي إلى الاستدامة، وتلتهم تلك القضايا التي تأصلت ونمت في ربوع الاقتصاد الريعي الكويتي؛ كتضارب المصالح، والفساد الإداري والمالي، واستغلال موارد الدولة دون وجه حق، وما إلى ذلك من قضايا لا تقع ضمن اختصاص من يرسم الرؤية، بل من اختصاص من تكلفهم استراتيجيات هذه الرؤية لتحقيق أهدافها التي تصب في صالح الاقتصاد الكلي وحسب.
وفي ضوء كل ما سبق، فإن ما نحتاجه لضمان خروجنا من هذا الوحل يتمثل في تمكين العقل البشري، وإكساب الثقة لمن هم أهل لها، والبذل ثم البذل للإصلاح الاقتصادي دون الاكتفاء بالتخطيط المصطنع بغرض مواكبة تطور دول مجاورة، أو إسكات أفواه الرأي العام. لا تنكأ الجرح دون تضميده، فجميعنا على يقين تام بمصدر العلة وسبب الداء، نسعى بشفافية تامة ونية صادقة قاصدة الإصلاح والتغيير، والتطبيق الصارم لكل ما يكفل تحول الاقتصاد لاقتصاد مستدام منتج لا يعتمد على مورد طبيعي ناضب، بقوانين وقرارات تصدر عن حكمة منيعة، تكفل تطور وتغير وتطويع ثقافة مجتمع بحاله، وبهمم أصحاب النوايا الحسنة الذين لا يعيرون لمصلحتهم الشخصية أي اهتمام، إنما يبذلون قصارى جهدهم للسمو بكويت جديدة، كويت مستدامة، كويت يبني أبناؤها، بقلوبهم قبل أيديهم، مجدها ومستقبلها ليتوارثه جيل عن جيل من بعدهم. هي لنا، فهل نحن لها؟