Abdullah Al-Salloum عبدالله السلوم عبدالله السلوم
رفعةُ التصنيفِ الائتمانيِّ: علامةُ ملاءةٍ وطيدةٍ.. لا برهانَ اقتصادٍ مستدامٍ • عبدالله السلوم
   الرئيسية
   السيرة الذاتية
مولفات
   كتب
   مقالات
   مقاطع فيديو
خدمات
   أدوات محاسبية
   أحداث ودورات وورش عمل
تواصل
   التواصل الإجتماعي
حقوق النشر محفوظة | 2012 - 2025
قراءةٌ فاحصة لرفعة التصنيف الائتماني للكويت؛ تُبيّن ما تُثبِته من متانة مالية، وما تُغفِله من صميمٍ اقتصاديٍّ لا يستقيم الإصلاح دونه.
حين أفصحت ستاندرد أند بورز عن قرارها برفع تصنيف الكويت الائتماني وإقرانه بنظرة «مستقرة»، تحرّكت في الأوساط الاقتصادية همهمةٌ تشي بأن صفحةً جديدة قد انفرجت في سجلّ الدولة المالي، صفحةٍ تحمل في ظاهرها بشائر الإصلاح واتساق المسار. وبدا المشهد للوهلة الأولى متماسك الأطراف: إشاراتٌ إلى تحسّنٍ في انتظام الإصلاحات، ورسوخٍ في متانة المراكز المالية، واتساعٍ في منافذ الاقتراض، وتقدّمٍ محسوب في خطط رفد الإيرادات بموارد غير نفطية. وجاء بيان الوكالة ليُطمئن —بعباراتٍ موزونة لا إفراط فيها ولا تفريط— أن قانون التمويل والسيولة، الصادر في مارس 2025، قد فتح للدولة أفقًا أرحب لترتيباتٍ تموّل سنواتٍ مقبلة، وأن الرؤية الرسمية ماضيةٌ نحو توسيع حقول الدخل، وتشديد عرى البنية التحتية، ورفع قدرة المالية العامة على الاحتمال والصمود.

ولم يُغفل البيان الإشارة إلى قوة الأصول السيادية وامتلائها، ولا إلى نموٍّ بلغ 1.3٪ في النصف الأول من 2025، مع توقّعٍ بأن يتسع إلى نحو 2٪ خلال أعوام 2025–2028، رغم ما يحيط بالمشهد من اعتمادٍ على النفط، وتقلّبٍ في أسعاره، وثقلٍ لا يزول في باب الإنفاق الجاري، وعجزٍ تدور تقديراته حول 7٪ من الناتج المحلي. وهذه القراءة —برغم إشراقها— تظلّ قراءةَ ظاهرٍ لا باطنٍ؛ إذ تمنح الدولة فسحةً للطمأنينة وثقةً أكبر في أسواق الدين، غير أنّ النصوص المالية، كآياتٍ تُتلى، لا تُؤخذ بسطحها، بل بفهم ما تحتها. فالأرقام، مهما أضاءت، لا تنطق وحدها، بل تُفهَم في سياقها؛ و«لِكلِّ نَبإٍ مُستَقَرّ». ومن ثَمّ، فإن رفع التصنيف ليس ختامًا يُطوى عنده الدفتر، بل مطلعُ فصلٍ يستوجب مزيدًا من التدبّر والبصيرة.

ما يثبته التصنيف.. وما لا يقدر على إثباته

ليس القصد من هذه القراءة التحليلية أن تطعن في بشارةٍ جاءت في وقتها، ولا أن تُهوِّن من جهدٍ استُفرغت فيه الطاقة، ولا أن تبعث في النفوس ريبةً لا مسوّغ لها؛ وإنما القصد أن نُنزِل التصنيف منزلته الصحيحة في ميزان الفهم، فلا نحمِّله ما لا يحتمل، ولا ننزع عنه ما له من دلالة. فالتصنيف الائتماني، على ما استقرّت عليه صناعَتُه، ليس إلا مقياسًا لملاءة الدولة المالية وقدرتها على الوفاء بالتزاماتها حين يحين أجلها؛ يزن حجم الأصول السيادية وما يقابلها من التزامات، ويرصد عمق الاحتياطيات وسيولتها، ويقيس سهولة النفاذ إلى أسواق الدين وتكلفته، ويُقوِّم تاريخ الدولة في السداد والانضباط، ويلاحظ صلابة الإطار النقدي وقوام السياسة المالية. هو —بعبارةٍ أهل الفن— حكمٌ على احتمال التعثّر لا على طاقة الازدهار؛ وعلى قدرة الدفع لا على قدرة الكسب.

وأمّا الاقتصاد في معناه العميق، فله بابٌ آخر ومعيارٌ مغاير: إنما يُقاس بقوة البنى الإنتاجية التي تصنع الثروة لا تلك التي تُنفقها، وباستدامة الدخل الذي يتجدد من عرق العمل لا من ريع البيع، وبقدرة السوق على النموّ العضوي الذي ينبثق من التنافس والتصدير وتراكم القيمة، لا من ارتداد المال الحكومي على النشاط المحلي. فربّ دولةٍ تعلو ملاءتها المالية لعظم ما تحت يدها من أصولٍ سائلة أو صناديق مدّخرة أو موارد بيعية وفيرة، ثم إذا سُئلت عن اقتصادها الإنتاجي وجدته محدود الساحة، ضعيف الصلة بالأسواق الخارجية، قليل التنوّع في مصادر الكسب؛ إذ ليست الملاءة المالية بالضرورة قرينةَ اقتصادٍ محصَّن، كما أن ضيق الموارد المالية لا يعني —إن صلحت البنية— ضيق المستقبل.

وإن شئتَ مثالاً يقرّبُ المعنى من غير ابتذال: فالقوة المالية أشبه بما يضعه المسافر في رحله من زادٍ وراحلةٍ تحمله وتكفيه مؤونة الطريق زمناً، أما القوة الاقتصادية فهي أن يكون له أرضٌ يحرثها، وماءٌ يجري في أعراقها، وصنعةٌ تُنتج، وسوقٌ تُصدِّر، حتى إذا نفد الزاد لم ينفد مورد الحياة. الأولى تُعين على الصمود في العوارض، والثانية تُقيم العمران على الدوام. الأولى قد تنشأ من ظرفٍ مواتٍ أو سعرٍ مرتفع أو مخزونٍ عظيم، والثانية لا تقوم إلا على هندسةٍ طويلة النفس: تعليمٍ يُنبت مهارة، وتشريعٍ يُنضج سوقًا، وبنيةٍ تُسهِّل الإنتاج، وسياسةٍ تُحوِّل الموارد إلى قيمةٍ مضافة.

ومن هنا كان الخلط بين رفعة التصنيف وتمام الإصلاح خلطًا في موضع الدليل والمدلول؛ لأن الإصلاح البنيوي، الذي يُعيد تشكيل المالية العامة ويُحوِّل الاقتصاد من التعلّق بموردٍ واحد إلى تعدّدٍ في منابع الدخل، لا يَتِمُّ إلا بكلفةٍ معتبرة. كلفةٌ مالية حين تُعاد هيكلة أبواب الإنفاق وتُرصد الأموال للتحوّل الإنتاجي بدل الاستهلاك؛ وكلفةٌ اجتماعية حين يُعاد توزيع المنافع على معايير الاستحقاق لا العادة؛ وكلفةٌ سياسية لأن القرارات الكبرى لا تُتخذ في فراغٍ من الرأي العام ولا من توازنات المؤسسات؛ بل وكلفةٌ ائتمانيةٍ —في بعض أطوارها— إذ قد تنكمش السيولة أو يعلو العجز مرحليًا أو يرتفع الدين الانتقالي، فينخفض التقييم مؤقتًا قبل أن يستقرّ على درجةٍ أعلى حين تكتمل أسباب الاستدامة.

ذلك أن وكالات التصنيف تنظر إلى الحاضر بأدواتٍ حسابية تُعلي من الملاءة الآن، بينما الإصلاح ينظر إلى المستقبل بمنطقٍ يرضى أن يشتدّ العبء في سنةٍ ليخفّ في عشر، وأن ينخفض رصيدٌ عارضٌ ليعلو رصيدٌ دائم. فليس غريبًا أن ترى الدولة —إن صدقت في التحوّل— درجةً ائتمانية تتراجع زمن البناء، ثم ترتفع ارتفاعَ الرسوخ بعده؛ إذ العبرة ليست بقيمةٍ تُلَمَّع في موسم، بل بقدرةٍ تُرسَّخ في جيل.

وإذا كان التصنيف قد ارتفع اليوم، فالسؤال الذي يلزم العقل الراشد ليس: «لِمَ ارتفع؟» فذلك بيّنُ أسبابه، وإنما: «أيُّ طريقٍ نسلكه حتى لا يكون ارتفاعُه طارئًا على قوةٍ ماليةٍ عارضة، بل شاهدًا على اقتصادٍ مُنتجٍ مستدام؟» وبصيغةٍ أدقّ: ما الذي سيجعل هذا التقييم يُقيم في موضعه غداً لا يبرح، حين لا تكون الأسواق رهينة سعرٍ، ولا الميزانية أسيرة موردٍ، ولا النمو وقفًا على إنفاقٍ يتسع حينًا ويتقلّص حينًا؟ تلك هي المسألة، وما عداها تفصيلٌ يتبع الأصل.

ما أغفلته وكالة التصنيف.. وما يلزم أن يُستدرك بعين الحكمة وطول النظر

إنّ تقارير وكالات التصنيف —مهما بلغت من إحكام الصنعة— تظلّ محكومةً بزاويةِ رؤيةٍ عالمية تُحصي ما يُرى على الورق، وتفترض دوام ما يُذكر في الخطط، فتُصيب في تقديرٍ وتُجانب في آخر. ومن ثمّ كان من الواجب أن نُتمّ الصورة بما تعرفه البلاد من دقائقها، لا على جهة التشكيك، بل على جهة التكميل؛ فالحُكم الرشيد لا يأنس إلى ظاهر الخبر حتى يفتّش عن باطنه. وفيما يلي مواضعُ ثِقلٍ لم تُحسن الوكالة وزنها، وما ينبغي أن يُبنى عليها من رؤيةٍ عملية راسخة.

أولاً: في استدامة الإصلاح.. وارتباطه بميزان السياسة

تحدّثت الوكالة عن تقدّم الإصلاح وكأنه نهرٌ جارٍ لا ينقطع، بينما الحقيقة في التجربة الكويتية أن الإصلاح، في كثيرٍ من أطواره، يتقدّم بقدر ما يتّسع هامش التوافق بين السلطات، ويتباطأ بقدر ما يضيق. فصناعة القرار الاقتصادي عندنا لا تجري في فراغٍ فنيٍّ محض، بل في ساحةٍ سياسية حسّاسة، يُمكن لتبدّلٍ يسيرٍ في مزاجها أن يؤخّر مشاريع التحوّل أعوامًا.

وهذه الهشاشة لا تُعالج بالشعارات، بل بتدابير مؤسسية تعلو على التغيّر:
(1) تثبيت الإصلاح داخل إطارٍ تشريعي مستقلّ: هنا نشير إلى الانتقالُ من منطق المبادرة المتقطّعة إلى منطق الدولة الممتدّة عبر الزمن؛ إذ لا يكفي أن تُقرّ حكومةٌ برنامجًا إصلاحيًا مهما حسُن، ما دام عرضه مرتبطًا بعمرها السياسي، وما دامت سلطته مُعلّقة على مزاج اللحظة أو توازنات المجالس. وإنما الواجب أن يتحوّل البرنامج —متى استوفى شروط الرشد الاقتصادي— إلى قانونٍ نافذٍ يحوز قوة الإلزام، فتلتزم به الحكومات المتعاقبة كما تلتزم بالميزانية وبنظام الخدمة وبقواعد الإنفاق. فالإصلاح، إذا لم يُجعل حقًّا عامًا مُشرعنًا، بقي وعدًا تُبطله الرياح عند أول تبدّلٍ في الساحة.

والقانون، في هذا السياق، ليس غايةً في ذاته، بل أداةٌ لحماية مسار التحوّل من الانقطاع؛ إذ يُقيد التراجع عن الإصلاح إلا بمسوِّغٍ رفيع يمرّ عبر قنواتٍ سيادية، ويُشترط فيه بيانُ الأثر المالي والاقتصادي، والبديلُ الذي يضمن ألا تعود الدولة إلى الحلقة نفسها من الدوران. وهذا المبدأ —من الوجهة الفنية— هو ما يجعل الإصلاح جزءًا من «البنية التشريعية للاقتصاد»، لا من قرارات الوزارات؛ لأن الاقتصادات التي نجحت في الانتقال من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج لم تفعل ذلك بقراراتٍ ظرفية، بل بسننٍ تشريعية تُقيّد يد التراجع بقدر ما تفتح يد التقدم، وتربط مسار الإصلاح بخريطةٍ زمنية لا تتوقف بتوقف حكومة ولا بتعثر سياسي عابر.

وبهذا يتحول الإصلاح من مشروعٍ إداري إلى ركنٍ من أركان الدولة، ومن سياسةٍ قابلة للتبديل إلى قاعدةٍ لا تُمسّ إلا بمبرراتٍ عليا، فيستقيم المسار، وتنتظم المراحل، ويُصبح المال العام خادمًا لمنظومةٍ تتسع ولا تتراجع.

(2) إنشاء مجلس اقتصادي أعلى بولايةٍ تنفيذية لا استشارية: مجلسٌ لا يكون تابعًا لتبدّل الوزارات، بل موصولًا بالقيادة العليا، يمتلك أدوات متابعة التنفيذ، ويربط الخطة بالنتيجة، ويُخرج الإصلاح من ثوب المزاج إلى ثوب المنهج. وقد بُسِطَ القول في هذا التصور —بتفاصيله ودقائقه— في مقال سابق لنا بعنوان: «المجلس الأعلى للاقتصاد».. ميزانٌ سياديٌّ لتقويم المسير، والذي تم نشره في 23 أكتوبر 2025، حيث جرى بيان الحاجة إلى هيئةٍ عليا تُمسك بخيوط الإصلاح الاقتصادي على مستوى السياسات لا الإجراءات، وتُعطي للدولة ميزانًا ثابتًا يقيس المسير لا الخطاب، ويَعبُر بالحكومات من موسمية القرارات إلى انتظام الرؤية واستقامة التنفيذ.

(3) إقرار مسارات إصلاح عشرية على هيئة «عقود أداء وطنية»: لا يمكن أن يُبنى الاقتصاد على خطواتٍ قصيرة العمر، بل على مساراتٍ طويلةٍ تُدرَج في سِجِلِّ الدولة لا في سجلات الحكومات. والعقد الوطني هنا ليس وثيقة نوايا، بل خريطة طريق تُقسَّم إلى مراحلٍ زمنية محددة، يُبيّن في كل مرحلةٍ مستهدفٌ دقيق، ووسيلةٌ لتحقيقه، ومؤشرٌ لقياس أثره، وآليةُ مساءلةٍ تُلزم الجهاز التنفيذي بشرح ما تمّ وما تعذّر، ولماذا.

فالإصلاح —في منطق الاقتصاد— لا يبلغ غايته ما لم يتحوّل إلى أرقامٍ تُقاس، وخطواتٍ تُتابَع، وتعهداتٍ تُراجع. ومن ثمّ، فإن العقود العشرية تُتيح للدولة أن تحكم الانتقال من طورٍ إلى طور، وأن تربط بين الاستثمار والنتيجة، وبين السياسة المالية والبنية الإنتاجية، فلا تبقى الخطط رهينة الظنّ أو الانطباع، بل تُختبر في الواقع كما تُختبر الفرضيات في مختبرٍ محكم.

ومن الوجهة الفنية، تُعدّ العقود العشرية وسيلةً لضبط الزمن الاقتصادي؛ لأنها تمنح الدولة قدرةً على إعادة توزيع الجهد والمال وفق أولوياتٍ ثابتة، وتُقلّل من أثر التقلبات السياسية على مسار الإصلاح، وتضمن أن تكون كل مرحلةٍ لبنةً فوق لبنة، لا تصحيحًا لما سبق أو نقضًا له. فالإصلاح الذي لا يُقاس لا يُنجز، والإصلاح الذي لا يُساءل لا يستقيم؛ أما ما يُلزم القائمين عليه بعقدٍ وطنيٍّ مكتوبٍ ومعلن، فيستحيل إلى مشروعٍ لا ينهض بقرارٍ فردي، بل بوعيٍ جمعي، وإرادة دولةٍ لا تترك مستقبلها لتبدّل المواسم.
بهذا تُستثمر رفعة التصنيف لتصير رافعةً لثبات القرار، لا مناسبةً عابرة.

ثانياً: في قدرة الاقتصاد على خلق دخلٍ غير نفطي.. لا حسابًا بل واقعًا

لم تُحسن الوكالة تقدير البنية التي يقوم عليها ما يُسمّى بالاقتصاد غير النفطي في الكويت؛ إذ إن أغلب ما يُدرج تحت هذا العنوان ليس إنتاجًا يُولد قيمة، بل نشاطٌ تداوليٌّ استيراديّ يعيش على اتساع يد الإنفاق العام أكثر مما يعيش على قدرته الذاتية. فالكويت، في وضعها الراهن، لا تمتلك قاعدةً صناعية مكتملة الحلقات، ولا زراعةً تُعدُّ رافدًا مُعتدًّا به، ولا قطاعًا خاصًا يتجذّر في ميادين الإنتاج بقدر ما ينشط في التجارة والوساطة وإعادة التوزيع. وحتى ما يُصنَّف من صادراتٍ غير نفطية، فميدانه لا يزال ضيقًا في تنافسيته محدودًا في أثره، لا يمثّل وزنًا يُعوَّل عليه في معادلة الاستقلال الاقتصادي. ولهذا، قد تنمو الإيرادات غير النفطية حسابيًا عبر رسومٍ أو ضرائب أو عوائد خدمات، ولكن ذلك كله لا يصنع استقلالًا، ولا يهب اقتصاد الدولة مناعةً سيادية؛ إذ إن الاستقلال لا يُبنى على إعادة ترتيب الجباية داخل اقتصادٍ يستورد أكثر مما ينتج، بل على خلق دخلٍ خارجي يتولّد من سلعٍ وخدماتٍ تدخل أسواق العالم بقيمةٍ مضافة لا بظلّ الإنفاق الحكومي.

والطريق الفنيّ إلى ذلك ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج إلى تحويل التمويل إلى هندسة إنتاج من خلال:
(1) تأسيس صناعة تحويلية ذات وظيفة خليجية الطابع: صناعاتٌ خفيفة ومتوسطة تُغذّي أسواق الخليج وشمال أفريقيا، وتستند إلى ما تملكه الكويت من ميزة لوجستية وموقعٍ بحري يربط الشرق بالغرب. فالصناعة الصغيرة، إذا اتصلت بسلاسلٍ إقليمية ممتدة، غدت كبيرةً في أثرها، وأخذت موقعها في منظومة القيمة المضافة، بدل أن تبقى نشاطًا محليًا محدود الجدوى.

وقد بُسط هذا المعنى، في جذره الفكري وأساسه المؤسسي، في مقالنا المنشور في 30 أكتوبر 2025 بعنوان: «السِّجِل الوطني لناتج الصادرات».. معراجُ الرُّشد إلى استثمارٍ منتجٍ ومستدام، حيث طُرحت فيه ضرورة إنشاء سجلٍّ وطني يُقاس به أصلُ القيمة المُنتَجة، لا حجمُ الاستيراد المُعاد تداوله، بما يُتيح للدولة أن تُميّز بين ما يرفع الدخل وما يرفع الفاتورة. ذلك أن الصناعات التحويلية —إذا وُجّهت وفق السجل وقواعده— لا تُنشئ فقط إمكانًا للتصدير، بل تُقلّل بالضرورة من الواردات، وتسدّ الثغرات التي تستنزف الميزان التجاري، وتفتح للدولة بابًا لإحلالٍ إنتاجيٍّ يُحوّل جزءًا من إنفاقها إلى قيمةٍ تتجدد، لا إلى منفعةٍ تستهلك وتضمحلّ.

ومن هنا، فإن ربط الصناعة بالسجل الوطني للصادرات ليس مجرّد تفصيلٍ تنظيمي، بل هو شرطٌ في أن تنشأ الصناعة على منطق الاقتصاد لا على هوى السوق؛ على خفض الواردات ورفع القيمة المضافة، لا على زيادة الاستهلاك في ثوبٍ جديد.

(2) بناء منظومة تصدير لوجستية كاملة: فهي ركنٌ لا يكتمل مشروعُ الإنتاج دونه —بعد المولى عز وجل—؛ إذ إن التصدير لا ينهض بمصنعٍ منفرد، ولو كان متقن الصنعة، بل يقوم على شبكةٍ ممتدة من الموانئ، ومناطق التخزين، والخدمات البحرية، والتأمين، والتجميع، وإعادة التصدير. فالتجارب التي شادَت قوتها عبر البحر لم تبدأ بالصناعة ذاتها، بل بدأت ببوابة الخروج إلى العالم؛ بوابةٍ تجعل المنتج جزءًا من سلاسل القيمة الدولية، لا حبيسًا للسوق المحلي.

وقد جرى بيان هذا المعنى، في عمقه وتطبيقاته، في مقالنا المنشور في 28 أغسطس 2025 بعنوان: «الهيئة العامة لدعم ناتج الصادرات غير النفطية.. استدامة»، حيث قُدّم آنذاك تصورٌ لمؤسسةٍ سيادية تُعنى بتمكين التصدير وخفض الاستيراد معًا؛ بما يجعل الدولة لا تكتفي بتسهيل خروج منتجاتها، بل تُعيد تشكيل بنية تجارتها الخارجية بحيث تتضاءل الواردات التي يمكن إنتاج بدائلها محليًا، ويتسع نطاق السلع والخدمات القادرة على الدخول في أسواق العالم بثقةٍ واستمرارية.

وهكذا، تصبح المنظومة اللوجستية ممرًّا لا لسلعةٍ وحسب، بل جزءًا من سياسةٍ اقتصادية تُحوِّل البلاد من محطة استهلاكٍ إلى مركز إنتاجٍ وتصدير، وتُعيد ضبط الميزان التجاري بحيث يتكئ على القيمة المضافة لا على اتساع شهية الاستيراد.

(3) إعادة تعريف مناطق الشمال: ليس مقصدها إنشاء بقعةٍ عمرانية جديدة تُضاف إلى خارطة الاستهلاك، بل إقامة ممرٍّ إنتاجي موجَّه للتصدير، تكون وظيفته أن يرفَق بالاقتصاد لا أن يثقل عليه. فالمناطق الاقتصادية، إن لم تُبنَ على منطق القيمة المضافة، وكانت امتدادًا لثقافة الاستهلاك لا لطاقات الإنتاج، غدت عبئًا مكلفًا، لا ترفد الميزان التجاري ولا تمنح السوق قدرةً على التمدد العضوي.

وقد جرى بسط هذا المعنى —بطبقاته الثلاث— في مقالنا المنشور في 10 سبتمبر 2025 بعنوان: «الاقتصاد الثلاثي».. حين يُبنى المجد لبنةً لبنة، حيث قُسِّم اقتصاد الدولة إلى ثلاثة أطر: «كويت الحاضر» بما فيها من واقع قائم، و«كويت التحوّل» بما تحمله من أدوات نقل الاقتصاد إلى طورٍ أعلى، و«كويت المستقبل» بما ينبغي أن يُبنى ليعكس صورة الدولة في العقود المقبلة. وفي ضوء هذا التصنيف، لم تكن مناطق الشمال مشروعًا جغرافيًا فحسب، بل حلقة وصل بين هذه الكيانات الثلاث: تُحفّز الكفاءة الإنتاجية في كويت الحاضر، وتمنح أدوات التحوّل في كويت التحوّل، وتُمهِّد لبناء اقتصاد مستقبلي يكون التصدير فيه قاطرة لا تابعًا، والإنتاج فيه أصلًا لا استثناءً. ومن ثمّ، فإن جعل مناطق الشمال بمثابة «كويت المستقبل» لا يتحقق بإنشاء منشآتٍ جديدة، بل بأن تصبح بوابةً تُسند اقتصاد اليوم، وتُسرِّع اقتصاد الغد، وتُخرج الدولة من أسر الاستيراد إلى فضاء الإنتاج، في سياقٍ واحدٍ متصل، تُبنى فيه اللبنات لبنةً لبنة كما تحدّثنا في ذلك المقال.
بهذه البنية يتحقق المعنى الحقيقي للإيراد غير النفطي: إيرادٌ ينشأ من سوقٍ خارجي لا من جيب الميزانية.

ثالثاً: في تضخم الالتزامات.. حين تسبق المصروفات الموارد

ركّز التقرير على الأصول والاحتياطيات، ولكنه استعرض بلمحٍ سريعٍ طرفًا آخر من المعادلة: التزامات الدولة طويلة الأجل التي تتسع بطبيعتها مع الزمن. الرواتب، والدعم، والتحويلات، والتقاعد، والرعاية؛ كلها تنمو مع نمو السكان، وارتفاع الكلفة، وتباطؤ الإصلاح الهيكلي. وهذه الالتزامات —إن لم تُدار— تُحوِّل الوفرة إلى ضغطٍ صامتٍ يلتهم الحيز المالي سنةً بعد أخرى.

والحلّ الاستراتيجي لا يكون بقطعٍ فجٍّ يثير المجتمع، بل بإعادة ضبط ذكية:
(1) التحوّل إلى الدعم الموجَّه: فهو خطوةٌ لازمة لفكّ الاشتباك بين العدالة الاجتماعية وكفاءة المالية العامة؛ إذ إن إسقاط الدعم السلعي العام —الذي يتسرّب إلى غير مستحقيه ويستهلك من المال العام أكثر مما يُنقذ من الفئات الهشّة— واستبداله بدعمٍ نقدي أو خدمي يصيب موضع الحاجة، يحقق مقصودين في آنٍ واحد: يُقيم العدل، ويُعيد إلى الميزانية حيّزها للاستثمار والإنتاج.

وقد تناولنا هذا المفصل بتفصيلٍ أكبر في مقالنا المنشور في 16 أكتوبر 2025 بعنوان: «الدعوم».. بين رِفق السياسة وعدل الميزان، حيث بُيّن أن الدعم، في صورته الحالية، ليس أداة رعاية بقدر ما هو أداة استهلاكٍ واسع لا تمييز فيه، وأن العدالة الحقيقية لا تُنال بالعموميات، بل بالوصول إلى المحتاجين دون غيرهم. وتلك الفكرة —إذا أُحسِن تطبيقها— لا تُخفّف العبء المالي فحسب، بل تُحرّر للدولة قدرةً على تحويل ما كان يذهب إلى الاستهلاك إلى موارد تُستثمر في بنى الإنتاج، فتغدو السياسة الاجتماعية سندًا للنهضة الاقتصادية، لا خصمًا عليها.

(2) إعادة هندسة التقاعد بأدوات ادخارية وطنية: ليست مجرد تعديلٍ في بندٍ ماليٍّ عابر، بل هي إعادةُ ترتيبٍ لعقدٍ اجتماعيٍّ طويل الأمد بين الدولة ومواطنيها؛ عقدٍ يختبر صلابة المالية العامة في الغد كما يختبر طمأنينة الأجيال. ذلك أن منظومة التقاعد، إذا تُركت على مسارها الطبيعي مع تمدد الأعمار وتزايد الداخلين إلى سوق العمل، تُصبح —بمنطق الحساب— التزامًا متناميًا يتراكم في الظلّ حتى يعلو على قدرة الميزانية، فيستنزف فائضها، ويضيّق حيّزها الاستثماري، ويحوّل الوفرة من طاقة بناءٍ إلى عبء صيانة.

ومن ثَمّ، فإن الحكمة تقتضي ألا يُنظر إلى التقاعد بوصفه «مكافأة نهاية خدمة» فحسب، بل بوصفه صندوقَ استدامةٍ للمالية العامة وجسرَ أمانٍ للمجتمع. وإصلاحه لا يكون بتجريح حقٍّ مكتسب، ولا بهدم ثقةٍ تراكمت، وإنما بإدخال أدواتٍ تُعيد التوازن بين ما يُدَّخر اليوم وما يُستحق غدًا، وبين ما تتحمله الدولة وما يتحمله النظام الادخاري نفسه.

وتتجلى هذه الأدوات في مسارين متساندين:
(أ) مسارات مهنية مبكرة مرنة بدل «التقاعد المبكر الصامت»: فالواقع أن كثيرًا من أنظمة التقاعد تُستنزف لا بسبب الشيخوخة الطبيعية، بل بسبب خروجٍ مبكرٍ غير مضبوط يدفع الصندوق إلى سداد معاشاتٍ لمددٍ أطول مما بُنيت عليه الحسابات الأصلية. والحلّ هنا ليس منع التقاعد المبكر منعًا جافًا، بل تصميم مساراتٍ مرنة تجعل الخروج المبكر خيارًا مشروطًا بالتدرج: جزءٌ من المعاش يُستحق، وجزءٌ يُستكمل عبر عملٍ جزئي أو انتقالٍ إلى برامج تدريب أو خدمةٍ استشارية. بذلك تتحول السنوات التي كانت تُحسب عبئًا خالصًا إلى سنواتٍ ذات إنتاجٍ أو مشاركة، وتستعيد المنظومة توازنها دون صدامٍ اجتماعي.

(ب) مواءمة سنّ الاستحقاق ومزايا المعاش مع المتغيرات الديموغرافية: لا على سبيل المصادرة، بل على سبيل «التحرير التدريجي» الذي يراعي طبيعة المجتمع. فكل ارتفاعٍ في متوسط العمر المتوقع، وكل تغيرٍ في هيكل السوق، يقتضي مراجعة متأنية لمعادلة: كم سنة ندفع فيها؟ وكم سنة ندخر لها؟ إذ لا تستقيم المعادلات المالية إذا تغيّرت أرقام الحياة وبقيت اللوائح ثابتة. والمراجعة هنا ينبغي أن تكون تدريجية واضحة، تُعلن قبل تطبيقها بسنوات، لتُبنى الثقة على اليقين لا على المفاجأة.

وبإدخال هذين المسارين، لا تُخفَّف الكلفة المستقبلية وحسب، بل تُعاد صياغة العلاقة بين العمل والادخار؛ فيصبح التقاعد ثمرةَ عمرٍ مُدَّخر لا عطاءً أحاديًا من الدولة، وتتحول المنظومة من «ضامنٍ واحد» إلى «ضمانٍ متعدد الروافع»، فتتقوى استدامتها، وتتحرر الميزانية لتمويل التحول الإنتاجي بدل أن تُستنزف في التزاماتٍ تتسع بغير حدّ. وهذا الباب، وإن بدا في ظاهره تقنيًا، إلا أنه في حقيقته من مواضع الحكمة الكبرى؛ لأن الأمم لا تُقاس بما تنفقه اليوم فحسب، بل بما تستطيع أن تضمنه غدًا دون أن تهدم به أساسها. فمن أحسن تدبير التقاعد، فقد أحسن تدبير الزمن؛ ومن أحسن تدبير الزمن، فقد أمِن على مستقبل الدولة والناس معًا.
(3) نقل جزء من الدعم إلى «تمكين إنتاجي»: ذلك بابٌ من أبواب الرشد الاقتصادي؛ إذ تتحوّل فيه فلسفة الدعم من كَفالةِ استهلاكٍ يتبدّد أثره، إلى تحفيزِ إنتاجٍ يتنامى مردوده. فبدل أن يُوجَّه المال العام إلى إطفاء كلفة حياةٍ يومية لا تنتهي، يُوظَّف قسمٌ منه في دعم مشاريع منزلية جادّة، وصناعاتٍ صغيرة تُنشئ قيمة، وحاضناتٍ للتصدير تُخرج المنتج المحلي من حدود السوق الضيقة إلى فُسحةٍ من الأسواق الأوسع. وبهذا ينتقل الدعم من كونه نفقةً تُستهلك إلى كونه رأسَ مالٍ مُصغَّر يُولّد دخلًا جديدًا، فيصبح علاجًا جذريًا لجزءٍ من مشكلات الدخل والعمل، لا مُسكِّنًا مؤقتًا لها.

وقد جرى تفصيل هذا النهج —من زاويةٍ تشريعية وتنظيمية— في مقالنا المنشور في 25 سبتمبر 2025 بعنوان: «عمومية قانون الصندوق الوطني.. بين فضيلة المرونة وآفة الالتواء»، حيث بُيِّن أن الصندوق الوطني، إن تُرِكَ على عموميته دون ضوابطٍ دقيقة، تحوّل من أداة تمكين إلى أداة التباسٍ تمتصّ الموارد دون أن تخلق قيمةً حقيقية. وأُشير حينها إلى أن التمكين الإنتاجي لا ينجح بالتمويل وحده، بل يحتاج إلى هندسةٍ تشريعية تُحدد المقبول من المشاريع، وتربط الدعم بمؤشرات إنتاجٍ فعلية، وتمنع انزلاقه إلى الاستهلاك المتجمل بثوب «المبادرة».

كما جرى بيان البعد الآخر لهذه الفكرة —من زاوية التصدير وخفض الواردات— في مقالنا المنشور في 28 أغسطس 2025 بعنوان: «الهيئة العامة لدعم ناتج الصادرات غير النفطية.. استدامة»، حيث قُدِّم تصورٌ لمؤسسةٍ سيادية تُعيد توجيه الدعم نحو الأنشطة التي تُقلّل من الاستيراد وتفتح أبواب التصدير؛ فتدعم الصناعات الصغيرة ذات القدرة على الإحلال الإنتاجي، وتصطاد المشاريع المحلّية القادرة على الدخول في سلاسل القيمة العالمية. وتلك الهيئة، لو تحققت، لكانت صلة الوصل بين المال العام والقدرة التصديرية، وبين الدعم والجدوى، وبين الدولة وسوق العالم.

ومن مجموع هذين المسارين —المسار التشريعي الذي يحفظ نزاهة التمكين، والمسار التصديري الذي يمنحه بُعدًا خارجيًا— يتحول الدعم من عبءٍ مالي إلى رافعة اقتصادية، ومن كلفةٍ مستمرة إلى قيمةٍ متجددة، فيصبح أداةً من أدوات التحول البنيوي لا من بقايا سياسة الرعاية الاستهلاكية.
هكذا يُسدّ «الثُّقب الداخلي» قبل أن يتسع، وتبقى الصدفة صلبةً لا لامعةً فقط.

رابعاً: في ضبط الإنفاق الجاري.. حين تصير العادةُ نظامًا

لقد ترسّخ الإنفاق الجاري في الكويت، عبر تراكم السنين وتداخل الأعراف مع المصالح، في مقامٍ يكاد يُعامل معاملة الثوابت التي لا تُمسّ؛ حتى غدا في الوعي السياسي والاجتماعي كالسقف الذي يُظلِّل الجميع، لا كأداةٍ تُقاس بميزان الجدوى. وفي المقابل، صار الإنفاق الرأسمالي —وهو موضع التحوّل الحقيقي— أقرب البنود إلى الذبح عند أوّل ضيق، كأنما يُضحّى بالبذرة ليُحفظَ الثمرُ، أو يُقتلع الأصل ليُصان الفرع. وهذه معادلةٌ لا تُنذر بعجزٍ ماليٍ عابر فحسب، بل تُنذر بعجزٍ تنمويٍّ ممتد؛ لأن الجاري، مهما اتّسع، لا يُنبت اقتصادًا منتجًا، وإنما يُبقي الحركة في دائرة الاستهلاك وإعادة التوزيع، بينما الرأسمالي وحده هو الذي يفتح باب القيمة المضافة، ويُحوِّل المال من كلفةٍ إلى قدرة، ومن نفقةٍ إلى استثمار، ومن حاضرٍ مستهلك إلى مستقبلٍ مُنتِج.

ومن الوجهة الفنية، فإن الاقتصادات التي تعيش على موردٍ ريعيّ —كحال الكويت مع النفط— لا تملك ترفَ جعل الإنفاق الجاري قائداً للميزانية؛ إذ الجاري بطبيعته يصنع «التزاماتٍ دائمة» تتسع تلقائيًا مع الزمن (رواتب، دعوم، خدمات)، في حين أن الإيراد الريعي متقلّب، لا يُؤمن له الاستمرار. فإذا كان جانب الالتزام دائمًا والجانب الإيرادي متذبذبًا، اختلّ الميزان من أساسه، ولو كثرت الأصول اليوم؛ لأن الأصول إنما تُستهلك على مهلٍ حين تُطعم التزامًا لا يتوقف. ولهذا فإن إصلاح الإنفاق ليس مسألة ترشيدٍ شكلي، بل هو إعادةُ بناءٍ للهندسة المالية العامة نفسها: أي ترتيب العلاقة بين ما يستهلك وما يُنتج، بين ما يُورِّث عبئًا وما يُورِّث عائدًا.

وإذا كان تصحيح هذا الخلل ضرورةً لا خيارًا، فإنه يقوم على ثلاث ركائز متساندة، لا يُغني بعضها عن بعض، ولا تُفلح منفردةً دون تجاورها:
(1) تحصين الإنفاق الرأسمالي تشريعيًا وسياديًا: ليس المقصود مجرد حماية مشاريع بعينها، بل حماية «حقّ المستقبل» في الميزانية. فيُسنّ إطارٌ قانوني يجعل الإنفاق الرأسمالي ذا مرتبةٍ أعلى من التقلبات الدورية، فلا يُخفض إلا ضمن ضوابط سيادية عليا وبعد اختبار أثره على مسار التحوّل. لأن المشروع الرأسمالي ليس بندًا ماليًا يُزاد ويُنقص بحسب سنةٍ أو مزاج، بل هو التزام تنموي طويل، ينعكس على الإنتاجية، وعلى خلق الوظائف النوعية، وعلى جذب الاستثمار، وعلى كفاءة الاقتصاد نفسه. وحين تتركه الدولة رهينة التقلّبات، فإنها —من حيث لا تشعر— تؤجل التحوّل كلما هبّت ريح.

(2) إنشاء صندوقٍ رأسمالي مستقلّ للمشاريع الكبرى: وهذا الصندوق ينهض على فلسفةٍ واضحة: أن المشاريع التحويلية لا تُموّل من «فتات الفائض»، ولا تُترك لمنافسة الجاري في الميزانية السنوية، بل يُخصص لها وعاءٌ مستقلّ يُموَّل من فوائض الأعوام الجيدة، ومن أدوات دينٍ طويلة الأمد حين تُحسن الأسواق استقبالها. ويُدار الصندوق بعقود أداء لا بشعارات، تُحدَّد فيها جداول التنفيذ، ونسب الإنجاز، ومؤشرات العائد الاقتصادي المباشر وغير المباشر. والغرض أن يُصبح التمويل الرأسمالي مسارًا ثابتًا لا ينقطع، وأن تُفكّ مشاريعه من مزاحمة المصروفات اليومية، لأن المزاحمة فسادٌ في الأولويات مهما بدت طبيعية.

(3) ربط الإنفاق الجاري بمؤشرات إنتاجية وقواعد مساءلة: فلا معنى —في ميزان الاقتصاد— لرواتب تتسع حيث لا يتسع معها الإنجاز، ولا لمصروفات دائمة في جهازٍ لا تزيد كفاءته بزيادة موازنته. الربط بالمؤشرات يعني أن يُعاد تعريف الجاري لا باعتباره حقًا مطلقًا، بل باعتباره أجرًا على منفعة، وكلفةً مقابل أداء. فيُدخل على بنود الجاري منطق القياس: ما الذي تحسّن؟ ما الذي أُنجز؟ ما الذي رُفع من إنتاجية الجهاز؟ وما الذي خُفض من كلفة الزمن الإداري؟ لأن الجاري إذا انفصل عن الأداء صار تضخمًا لا رعاية، وصار عبئًا يتناسل بغير حد.
وحين تُجمع هذه الركائز الثلاث في نظامٍ واحد، ينتقل الإنفاق من كونه «متنفّسًا» يمتص الفوائض ثم يطلب المزيد، إلى كونه «محركًا» يخلق الفوائض ويستحقها. وعندئذٍ فقط يصبح المال العام أداةً لبناء اقتصادٍ يقتات من إنتاجه، لا اقتصادٍ يقتات من مصروفاته. فالدولة التي تُحسن ترتيب إنفاقها، إنما تُحسن ترتيب قدرها؛ لأن الميزانية ليست أرقامًا تُجمع وتُطرح، بل هي ترجمةٌ عملية لفلسفة البقاء وسبيل الرشد.

خامسا: في الرؤية.. حين يكون النص أكبر من الآلة

وأمّا رؤيةُ 2035 —على جلالة مقصدها وسموّ غايتها— فلا تزال، في ميزان التنفيذ، أخفَّ من أن تحمل أثقال المرحلة أو أن تنهض بما يطلبه الزمن من تحويلٍ بنيويٍّ عميق. فهي وثيقةٌ مُحكَمةُ العبارة، واسعةُ الطموح، لكنها—في صورتها الراهنة—أقرب إلى خريطةٍ بلا طرق، أو إلى مقصدٍ بلا سبل؛ إذ لا جداول تنفيذٍ مُلزِمة تُحدَّد فيها الأعوام والأشهر، ولا مسؤوليات مفصّلة تُنسب فيها المهام إلى الجهات والقيادات، ولا مؤشرات قياسٍ تُلاحق العمل من أوله إلى منتهاه، ولا مساءلةٍ تُخرج التقصير من ظلِّ العموميات إلى نور الحقيقة. والرؤية، بغير آلة تنفيذ، كالبحر بغير سفينة: تتّسع في الأفق لكن لا توصل إلى شاطئ.

ولأن الرؤى الكبرى لا تُستكمل بالأمنيات، بل بالأدوات والسياسات، فإن معالجة هذا النقص لا تكون بتوسيع النصوص، بل بتشييد هندسة تنفيذية جديدة تستند إلى ثلاثة أركان استراتيجية:
(1) تحويل الرؤية إلى برنامجٍ حكومي مُلزِم عابر للحكومات: لا يكفي أن تُذكر الرؤية في البيانات الوزارية، ولا أن تُرفع شعارًا على واجهات المؤسسات؛ بل ينبغي أن تتحول إلى برنامج وطني مُشرعن، يربط كل وزارة وكل جهاز بعقود أداء محددة، يُبيّن فيها ما يُنجَز وما يُقاس وما يُحاسَب عليه. فالرؤية التي تتغير تبعًا لتبدّل الوزراء لا تُدعى رؤية، والرؤية التي يُعاد صياغتها كل أربع سنوات لا تستطيع أن تُقيم مشروع دولة ولا اقتصادًا يُبنى عبر عقود.

إن تحويل الرؤية إلى برنامج مُلزِم يعني أن يصبح تنفيذها واجبًا قانونيًا لا توجيهًا إداريًا، وأن تُربط الميزانيات والأدوار التنفيذية بمدى التقدّم في مساراتها. وهنا يبرز دور «المجلس الأعلى للاقتصاد» —الذي بُسِط بيانه في مقالنا المنشور بتاريخ 23 أكتوبر 2025 بعنوان: «المجلس الأعلى للاقتصاد».. ميزانٌ سياديٌّ لتقويم المسير— بوصفه الجهة القادرة على تحويل الرؤية إلى نهجٍ تُلزمه الدولة بالقانون، لا مجرّد وثيقة تلوح في المناسبات.

وقد أوضحنا هناك أن المجلس، إن أُنشئ بولايةٍ سيادية نافذة، يمتلك القدرة على وضع الهياكل، وإصدار التشريعات الداعمة للرؤية، وربطها بالمسار المالي للدولة، وتجريدها من الطابع الاحتفالي إلى طابعٍ مؤسسي يُحاسب فيه الجميع، ويُتابَع فيه التنفيذ متابعةً دقيقة لا تتأثر بتبدّل الحكومات.

(2) إنشاء وحدة مركزية مستقلة لقياس الأداء الاقتصادي والقطاعي: فالرؤية، إذا لم تُقَس، بقيت في مقام التمنّي. وكثيرٌ من الدول تعثّرت لا لأنها فقدت الموارد، بل لأنها فقدت القدرة على القياس. ولذا، فإن وجود وحدة قياس أداء تتبع القيادة مباشرة، وتُعلن نتائجها فصلًا بعد فصل، ويطّلع عليها الشعب والمسؤول، هو ما يُحوّل الرؤية من نصٍّ مرسل إلى سجلٍّ محكوم بالأرقام.

هذه الوحدة ينبغي أن تكون مستقلة استقلالًا حقيقيًا، لا تابعة لوزيرٍ أو جهازٍ يتبدل بقرار، بل ثابتة في موقعها، تتعامل مع الرؤية كعقدٍ وطني طويل الأجل. تقيس ما يُنجز وما يتأخر، وتُحدّد مواطن الخلل، وتُصدر تقارير غير قابلة للتأويل. فالدول لا تُبنى بالكتمان، بل بالشفافية الدقيقة التي تُري الجميع مواضع القوة كما تُري مواضع الضعف.

(3) إرساء قاعدة «الاستبدال عند الإخفاق» بدل تراكم التعاطف مع الأداء الضعيف: فالمنظومات لا تتقدم إذا كان التعاطف يغلب على المساءلة، ولا تنهض الدول إذا بقيت المناصب مكافأةً لا وظيفة. الرؤية، إن كانت ميثاقًا وطنيًا، فلا بد أن يكون الإخفاق في جزءٍ منها إخفاقًا في أداء موقعٍ داخل الدولة، وأن تكون النتيجة الطبيعية لذلك هي الاستبدال لا الاعتذار، والمراجعة لا التبرير. هذه ليست قسوة، بل حكمة؛ فالمشاريع الكبرى لا تُدار بالمجاملات، وإنما بمنطقٍ واحد: من يُنجز يستمر، ومن لا يُنجز يُستبدل. وهو ما يجعل الرؤية قابلةً للحياة، لا حبرًا محفوظًا في الأدراج.
إن رؤية 2035، بما تحمله من طموح، يمكن أن تكون نقطة تحوّل في مسار الدولة، أو يمكن أن تبقى —كما بقي غيرها— ورقةً بليغة لا تتجاوز أطرافها. والفارق بين المصيرين ليس في النص، بل في الأدوات: في المجلس الأعلى الذي يُشرعنها، وفي وحدة القياس التي تُتابعها، وفي قاعدة المساءلة التي تُنظّمها. فالرؤية، متى امتلكت قانونًا يسندها، ومجلسًا يُقوّمها، وآلةً تُقيسها، تحوّلت من فكرةٍ طيبة إلى مشروع دولةٍ يتنقل عبر الزمن دون أن تهتزّ به ريح.

سادسا: في الاقتراض.. حين يكون جسرًا أو ستارًا

وأمّا قانون التمويل والسيولة، فعلى ما حمله من توسعةٍ في قدرة الدولة على النفاذ إلى أسواق الدين، وما وفّره من إطارٍ نظاميّ ينظّم أدوات الاقتراض، فإنه —في ميزان التحوّل البنيوي— أشبه بمفتاحٍ نافعٍ لا يفتح الباب وحده، بل يحتاج إلى يدٍ خبيرة تُحسن استعماله. فالقانون يعالج جانبًا من الوسائل، لكنه لا يعالج لبّ الهيكل؛ إذ الهيكل لا يتغير بإتاحة الاقتراض، بل يتغير بقدرة الاقتصاد على أن يُنتج ما يُبرّر هذا الاقتراض. والخطر كلّ الخطر أن يتحوّل الدين إلى بديلٍ سهل عن الإصلاح، فيُدار العجز بتوسيع باب الاقتراض لا بتقليص أسباب العجز، وتُرحَّل مشكلات اليوم إلى مستقبلٍ أثقل تُضاعفه الفوائد وتتراكم فيه الالتزامات.

إن الدين، إذا لم يُربط بإنتاجٍ يضمن سداده، يصبح —ولو ارتفع التصنيف الائتماني— رهانًا على زمنٍ غير مضمون، ويحوّل قوة الدولة المالية إلى قشرةٍ لامعة فوق بنيةٍ غير مستقرة. ولهذا كان ضبط إدارة الدين ضرورةً استراتيجية، لا خيارًا محاسبيًا؛ إذ الاقتصادات التي تعتمد على موردٍ ناضب، مثل النفط، لا تملك ترف الاقتراض الحرّ، بل عليها أن تجعل الدين محكومًا بمعادلةٍ دقيقة لا تتجاوز فيها الالتزامات طاقة الاقتصاد الحقيقية على توليد القيمة.

وقد بُسط هذا المبدأ في مقالنا المنشور بتاريخ 14 أغسطس 2025 بعنوان: «من النفط إلى التنويع… معادلة جديدة لإدارة الدين العام»، حيث جرى بيان أن الدين العام، لكي يكون أداةً رشيدة، لا بد أن يتحدد سقفه بعاملين مستدامين فحسب في معادلة إجمالي الناتج المحلي: الاستثمار المنتج و ناتج الصادرات. فهما وحدهما —لا الإيرادات الريعية ولا الرسوم العابرة— يمثلان القدرة الدائمة للاقتصاد على خلق قيمته الذاتية. وما عدا ذلك، مهما بدا متماسكًا في اللحظة، لا يمكن أن يكون قاعدة تُبنى عليها التزامات طويلة الأمد.

وتبعًا لهذا الفهم، فإن ضبط مسار الاقتراض لا يتحقق إلا عبر ثلاثة ضوابط متساندة:
(1) ربط كل دينٍ جديد بمشروع إنتاجي محدَّد العائد: ليست القاعدة هنا قاعدة تجميلية، بل قاعدة «مالية صلبة»: لا دين دون عائد، ولا اقتراض دون مسوّغٍ إنتاجيٍ واضح. فيُربط كل إصدارٍ جديد من أدوات الدين بمشروعٍ يُنشئ طاقةً إنتاجية —مباشرة أو غير مباشرة— تكفل خدمة الدين وسداده. وهذا ما تفعله الدول التي بنت اقتصاداتها الحديثة: تجعل الدين «محركًا»، لا «مُسعفًا»، وتربط كل اقتراضٍ بجدوى اقتصادية محددة تُراقَب وتُحاسَب. فالاقتراض الذي يُموّل مصنعًا، أو ميناءً، أو منطقةً لوجستية، أو مشروعًا تكنولوجيًا، يختلف جذريًا عن الاقتراض الذي يُموّل إنفاقًا جاريًا يُستهلك في سنة ولا يبقى أثره.

(2) حظر الاقتراض لتمويل العجز الاستهلاكي بنصٍّ تشريعي واضح: هذا الحظر ليس تضييقًا، بل تحصينٌ للمالية العامة؛ إذ من أكبر أخطاء الدول التي تعتمد على إيرادٍ واحد أن تُسدّ فجوات عجزها الاستهلاكي عبر الدين، فتجد نفسها بعد سنوات أمام التزامٍ مُضاعف: العجز الأصلي من جهة، وأقساط الدين وفوائده من جهة أخرى. وهكذا يُستنزف المستقبل لتمويل حاضرٍ لم يتغيّر فيه شيء. فإن وجود نصٍّ تشريعي صريح يَحظر تمويل المصروفات الجارية بالدين يجعل الاقتراض محصورًا في باب واحد: الاستثمار المنتج. وبهذا تنتقل الدولة من سياسة «التسكين المالي» إلى سياسة «التوليد الاقتصادي».

(3) تحويل الدين إلى أداة نمو، لا أداة تسكين: وهذا يعني أن يقاس نجاح الاقتراض ليس بصفقة التمويل نفسها، ولا بانخفاض تكلفته، ولا بحجم الإقبال عليه، بل بما يضيفه من قدرة إنتاجية إلى الاقتصاد: هل زادت الصادرات؟ هل ارتفعت القيمة المضافة؟ هل انخفضت فاتورة الاستيراد؟ هل تحسّنت إنتاجية المؤسسات؟ هل ارتفعت فرص العمل النوعية؟

حين يُقاس الدين بهذه المعايير، يتحوّل من «عبءٍ مؤجل» إلى «رافعة نمو»، ومن بندٍ مالي إلى أداة تحول، ومن قيدٍ محتمل إلى جسرٍ لبناء اقتصادٍ قادر على خدمة نفسه.

إن الاقتراض، حين يُترك بلا قواعد، يصبح طريقًا سريعًا إلى ترحيل الأزمات؛ وحين يُضبط بقاعدة الاستثمار والصادرات، يصبح بابًا للتنويع والاستدامة. ولهذا، فإن قانون التمويل والسيولة —على أهميته— لا بد أن يُستكمل بمنهجٍ أشمل يجعل الدين العام محتكَمًا بما يخلقه الاقتصاد من قدرة، لا بما يتسع له الإنفاق من رغبة. فالدين ليس شرًا مطلقًا ولا خيرًا خالصًا؛ إنما هو أداة، ولا تصحّ الأدوات إلا على قدر من يستخدمها. والدولة التي تجعل قرضها جسرًا للإنتاج، إنما تجعل مستقبلها أوسع من حاضرها؛ أما التي تجعله وسادةً للاستهلاك، فإنما تُضيّق غدها بما توسّع به يومها.

وبالجملة، ليس ما أغفلته الوكالة عيبًا في صناعتها، ولا نقصًا في عدّتها، فوكالات التصنيف إنما تنظر من زاويةٍ عالميةٍ محكومة بما يتاح لها من بياناتٍ رسمية ومعايير مالية ثابتة. وإنما مكمن القصور في أن زاوية الرؤية —مهما اتسعت— لا تُحيط بدقائق الأرض التي لا يعرفها إلا أهلها؛ فهي تُحسن قراءة القوة المالية، لكنها لا تبلغ غور القوة الاقتصادية، ولا تقيس ما تحت السطح من تحولاتٍ بنيوية، ولا ما في الداخل من موازين السياسة وسنن المجتمع.

وما يلزمنا، إذن، ليس ردَّ الخبر ولا التهوين منه، بل إعادة وضعه في مكانه الصحيح: شهادةٌ على متانة الملاءة، لا على اكتمال المسار؛ إشارةٌ إلى ما يمكن البناء عليه، لا إلى ما ينبغي الركون إليه. فالتصنيف يرتفع اليوم بقوة الأصول، لكنه لا يبقى غدًا إلا بقوة الإنتاج. يرتفع بوفرة السيولة، لكنه لا يستقر إلا بقدرة الاقتصاد على توليد دخله بنفسه. يرتفع بحُسنِ الإدارة المالية، لكنه لا يترسخ إلا إذا تتمدّد المؤسسية في الإصلاح، وتتعزّز الاستدامة في القرار.

إن رفعة التصنيف —إن بقيت حبيسة المال— كانت عارضةً كالبرق: يلوح في سماء البيانات ثم يخبو عند أول تبدّلٍ في الأسواق. أمّا إذا عبرت إلى الاقتصاد، فصارت صناعةً للعمل، وتأسيسًا للمؤسسات، وتوسيعًا لقاعدة الإنتاج، ورفعًا لناتج الصادرات، وتقليلًا للاعتماد على الواردات، وتحريرًا للمالية العامة من أثقالِ الجاري، فهي عندئذٍ رفعةٌ باقية لا تزول، لأنها استندت إلى أرضٍ تُنبت قيمة، لا إلى موردٍ قد ينضب.

فالتقييم الحقيقي لا يُثبت بالتصنيف وحده، بل يُثبت حين تصبح قوة الدولة المالية نتيجةً لقوة اقتصادها، لا تعويضًا عنها؛ وحين يكون المال خادمًا لهيكل إنتاجي يتسع، لا ستارًا لهيكلٍ ثابت لا يتحرك. وعندئذٍ فقط، تتحول الكويت من دولةٍ يُشاد بملاءتها إلى دولةٍ يُشاد بقدرتها؛ ومن اقتصادٍ ينتظر السعر إلى اقتصادٍ يصنع القيمة؛ ومن تصنيفٍ يُقرأ في تقريرٍ عالمي إلى قوةٍ تُقرأ في واقع الناس وفي مستقبل الأجيال.

وإنّ رفع التصنيف، على ما فيه من بشارة، إنما هو شهادةٌ تُحمد ولا تُغني عن السؤال الأكبر: كيف نُقيم اقتصادًا يرسخ في قوّته وإن تبدّلت حوله المقادير، ويثبت على أركانه ولو انحنى التصنيف يومًا تحت ثقل العوارض؟ فالرفعة التي نشهدها اليوم ثمرةُ واقعٍ ماليٍّ متين، أمّا الرفعة التي نُريدها غدًا فهي استحقاقٌ لا يُنال إلا برؤيةٍ تُحسن القصد، ومؤسسيةٍ تُحكم العمل، وجدٍّ لا يكلّ، وقدرةٍ على تحمّل كلفة الإصلاح حين تشتدّ، لأن البناء الحقّ لا يقوم بغير ثمن، ولا تستقيم دعائمُه بغير صبرٍ يطول. ولعلّ في قول الحكيم ما يُغني عن الإسهاب: «ما بقي من البناء إلا ما شُيّد بالحكمة، وما استقام من الطريق إلا ما رُسم بالعقل.»

فإن كان ارتفاع التصنيف دليلًا على أن الطريق قد فُتح، فالسؤال الذي يلزمنا —لا على سبيل الخطابة بل على سبيل العزم والاختيار— هو: هل سنمضي هذا الطريق بخطًى تليق بدولةٍ كُتب لها أن تكون في صدر الركب، لا في ذيله؛ وأن يكون مستقبلها من صُنعها، لا من صُنع العوامل التي تحيط بها؟

فاللّهم أبرِم لهذه الأمّة أمرًا رشدًا..
بطاقة المقال (304) | لمزيد من المقالات قم بالإختيار من هذه القائمة.
حقوق النشر محفوظة | 2012 - 2025